د. يوسف
الإدريسي
[نشر المقال الراهن ضمن كتاب التراث والتأصيل]
ظلت قراءة التراث
اللغوي والنقدي والفلسفي عند العرب من أبرز الإشكالات التي واجهت الدارسين
المحدثين، وقد ازدادت حدة بعد العثور على العديد من المصنفات العربية الهامة التي
كانت في حكم المفقود، واستمرار ضياع أخرى، وبفعل تبلور تصورات نظرية ومناهج
تحليلية جديدة تتقاطع في كثير مما ذهبت إليه مع النتائج التي انتهى إليها اللغويون
والبلاغيون والنقاد العرب القدامى. فكان السؤال الدائم: هل نقرأ تراثنا بآليات
نظرية ومناهج تحليلية مستمدة من المعارف الغربية الحديثة والمعاصرة؟ أم نقرؤه في ذاته، وبمعزل عن التصورات والمناهج
الحديثة؟ أم هل ينبغي أن نبلور تصورا منهجيا مغايرا لا يتماهى مع النظريات
والمناهج الحديثة، ويعمد إلى إسقاطها على المنجزات العلمية العربية القديمة، ولا
يغض الطرف في الوقت نفسه عنها، فيتجاهلها ليحتمي بالتراث ويكتفي به وحده دون أن
يكترث بما سواه من المنجزات العلمية والفكرية غير العربية؟ ثم – قبل هذا وذاك - ما
حدود العلمية ودرجتها في كل قراءة لتراث لم تصلنا كل نصوصه، وتضطر تلك التي يتم
الاهتداء إليها الباحثين إلى تصحيح كثير من أحكامهم وتغييرها؟
بالقدر
الذي كانت فيه هذه الأسئلة ملحة، وتقتضي مقاربة آنية لها – لا تخلو من عمق وهدوء-
كانت تؤدي دوما إلى إعادة استحضار "الآخر" ، والنظر في كيفية التعامل
معه ومع علومه ومناهجه، كما كانت تتطلب أيضا التساؤل - ومن جديد- عن ماهية التراث
وحدوده والموقف منه، ليس باعتباره معطى متعددا ومتنوعا فحسب، بل وبوصفه أيضا مكونا
جوهريا لهويتنا ومؤثرا فيها، وعينا بذلك أم لم نع.
والقارئ
لنتاجات فضيلة العلامة عباس أرحيلة يسجل جملة من الملاحظات، التي تمس حدود اشتغاله
بالتراث ومجالات هذا الاشتغال، وطبيعة الرؤية المنهجية المتحكمة فيه.
فكتابات الرجل توزعت
بين البحث في علوم التفسير والفقه ومباحث الإعجاز، وفي دواوين الشعر العربي وكتب
اللغة والنقد والبلاغة، فضلا عن متابعة علم الكلام والفلسفة، هذا دون أن نذكر
اهتماماته الأكاديمية المبكرة بالمسرح والسينما وغيرهما من الخطابات الفنية ذات
الطابع البصري، والتي ظلت راسخة في تلقينه التربوي وتواصله العلمي والإنساني
أيضا.
ولئن كانت معرفته بكل
هذه المجالات تفسر موسوعيته، فإنها تشي بتصوره المفهومي للتراث، وخصوصية مقاربته
المنهجية له، فالتراث –وبالرغم من تعدد مجالات نظره واختلاف حقول اشتغاله - إلا
أنه يعتبر خطابا واحدا مترابط القضايا منسجم الرؤية متماسك البنى النظرية
والفكرية، ولا مجال إلى الفصل بين كل مكوناته ومستويات تحققه؛ بل إن كل دراسة
تكتفي بمستوى واحد دون أن تنظر في صلته بباقي المستويات تظل موسومة بالنقصان،
بعيدة عن تحصيل درجة النظر الكلي والتحليل الشمولي.
ويبدو أن العلامة
عباس أرحيلة قد انتبه إلى هذه الحقيقة وعمل بها في أول أعماله الأكاديمية، خلال
الثمانينيات من القرن الماضي، في الوقت الذي كانت فيه العديد من الدراسات مركزة
على مجالات ضيقة ومحدودة، بل إنه ظل يؤكدها في كتبه ومقالاته في الإعجاز القرآني
واللغة والنقد والتفسير وغير ذلك.
ولعل أبرز سمة تطبع
كتابات العلامة عباس أرحيلة وعيه الحاد والعميق بمسألة المنهج في قراءة التراث،
بحيث يرى أن مشكلة المشاكل التي واجهت الكثير من الدراسات غياب المنهج الملائم،
ولذلك فكثير من الدراسات الحديثة عجزت عن
فهم التراث وإدراكه، لكون أصحابها تسلحوا بمواقف مسبقة في قراءته، وانتصروا لطروحات
سياسية وإيديلوجيا على حسابه، فظلت أحكامهم غريبة في زمن صدورها، فاقدة لأية قيمة
علمية ومعرفية بعد تراجع التصورات والأسس المعرفية التي انبنت عليها.
ويكفي مراجعة ما قيل
في هذا الإطار عن العديد من النقاد والبلاغيين واللغويين منذ الأربعينيات من القرن
الماضي ومقارنته بعد عقد أو عقدين من الزمن، فبعد أن كان يعتبر ناقد ما الأب
الروحي للبنيوية أو المؤسس الأول للمنهج الاجتماعي أو غيرها من الأحكام[1]،
سرعان ما يتم التخلي عن هذا الحكم او ذاك للصالح أحكام أخرى وتوصيفات مغايرة تظل
رهينة تطور العلوم والمناهج الحديثة ليتم التخلي عنها بدورها أيضا.
لقد لاحظ العلامة
عباس أرحيلة أن العديد من المشتغلين بالتراث جاهلون له بعيدون عن فهمه، بل هم مجـرد
مرددين للأوهام، ووجد أن السبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة المناهج
المتبعة في دراستهم له. فجعل وكد عمله وأساس مشروعه صياغة رؤية منهجية في قراءة
التراث وتحليله تنسجم مع طبيعة قضاياه وخصوصية مجالاته، وتمكن من تقديم معرفة
دقيقة به، بدل إنتاج الإيديولوجيا والترويج لها والتوهم أنها العلم الحقيقي.
ولذلك فقد بدأ بمسألة
قراءة التراث، فحدد طبيعتها وضوابطها ومراميَها، وعيا منه أن كل قراءة إنما هي
نتاج سياقاتها المعرفية والتاريخية، وأن كل فعل قرائي لا يعي شروطه وآلياتِه يظل
بعيدا – مهما كان حرصه - عن النفاذ إلى أغوار النصوص وبواطنها، يقول معبرا عن
ذلك: «إذا كانت الكتابة انتصارا على الزمن
وتخليدا له، فإن القراءة تأمل في دلالات المقروء عن طريق فهمه وتفسيره واستنطاقه
وتأويله (...) والتطور الحضاري ما هو إلا قراءة لنصوص (...) وقد لوحظ خلال التاريخ
أن القراءات للنصوص تتنوع وتتعدد، وأن كل قراءة تنسجم مع سياقها التاريخي
وخلفياتها الحضارية. وتبين خلال التاريخ، أن هناك نصوصا تعددت قراءاتها لأهميتها
وتعددت دلالتها وكثرت إيحاءاتها. وإذا كان من نافلة القول إن القارئ ينفعل
بالمقروء، فإنه قد انكشف للباحثين أن القارئ تتحكم فيه ظروف متعددة تتداخل مع حقول
معرفية أخرى، منها: البحث النظري، والنقد، والمنهج، والإيديولوجيا، وتحليل النصوص
الإبداعية بصفة خاصة. واتضح أن القراءة عملية معقدة يدخل فيها المكتوب مع ما لدى
القارئ من تكوين ثقافي، ومن تصورات وقناعات، وأن القراءة تتطلب قدرة على تحويل
الرموز إلى مفاهيم ذهنية في ضوء مرجعية خاصة، وقدرة على الفهم»[2].
وما يشير إليه هنا
د.عباس أرحيلة لا يعني بتاتا اعتقاده بإمكانية قراءة التراث قراءة محايدة أو بريئة[3]،
بل هناك – دائما وبالضرورة - قراءات منحازة أو مغرضة تختلف درجاتها ومحركاتها
وأهدافها بين خدمة التراث والعمل على الاستفادة منه وتطويره، أو التنكر له والتهجم
عليه بغاية التبرؤ منه والتخلي عنه.
وللاستدلال على تعذر
وجود قراءة بريئة للتراث، تابع في كثير مما كتب نماذج من تلك القراءات، فأبرز أن
تباينها تحكمه المنطلقات المفهومية والمنهجية لأصحابها، وهي منطلقات لا يتم
استنباطها من صميم النص المقروء أو من سياقه الثقافي والحضاري، بل يتم إسقاطها على
النص والبحث عن المسوغات والمبررات التي تسمح بتمريرها والإقناع بها، ذلك «أننا
حين نضع المنهج، نكون في الوقت نفسه قد اختلقنا الموضوع»[4]،
ولهذا فـ« عندما نقرأ التراث ننطلق من مواقف فكرية محددة، لاسبيل إلى تجاهلها،
ونفتش في التراث عن عناصر للقيمة الموجبة أو السالبة، بالمعنى الذي يتحدد إطاره
المرجعي بالمواقف الفكرية التي ننطلق منها»[5].
وقد كان عباس أرحيلة
واعيا بهاته الضوابط القرائية ومحدداتها المنهجية، فأوضح أن كل أنواع قراءة التراث
ومستوياته « اصطبغت بملابسات المرحلة ثقافيا وقوميا واجتماعيا»[6]،
وأن الذوات القارئة تأثرت – بدرجات متفاوتة وصيغ مختلفة - بالأوضاع النفسية
والسياقات الاجتماعية والتاريخية في عمليات قراءاتها للتراث، إلا أنه ألح مع ذلك –
وهنا تكمن علمية عمله ودقة تصوراته- على ضرورة التمييز بين نوعين من القراءة:
قراءة منهجية دقيقة؛ وقراءة تأويلية مغرضة، فالقراءة وإن كانت لا تنفصل عن الذات
القارئة، فإن ذلك لا يبيح لذات القارئ أن تؤول النصوص دون أن تستند إلى أسس علمية
واضحة وضوابط منهجية دقيقة، ففي تصوره أن التأويل إذا استبد بالقراءة وحل محلها
يلغي مصداقيتها، ويصبح مرفوضا؛ لأن « كل قراءة تأويلية تفسد تاريخ الأفكار وتطمس
الأصول. والتأويل المغرض انحراف بالمقروء ووقوع في التيه والضلال(...) والتأويل
الذي تراد به القراءة المغرضة هو إيديولوجيا تحجب الخطاب، وتوجهه، وتشوهه، ويتغاضى
فيه صاحبه عن الحقيقة مدفوعا في ذلك بمصلحة ما»[7].
لا يكتسي ما يعبر عنه
العلامة عباس أرحيلة قيمته وأهميته فحسب من كونه يضع الحد الفاصل بين تأويل علمي،
مقبول ومنسجم مع طبيعة القراءة وخصوصية النص المقروء؛ وتأويل مغرض يتعارض مع روح
العلم ومنهجه، بل وأيضا من كونه يبرز أن قراءة التراث العربي الإسلامي لا تنفصل عن
تكوين الذات وخلفياتها، بل وكذلك عن خصوصية السياقات الحضارية والثقافية للنصوص
المقروءة، من ثمة فما لم يع القارئ أن التراث بمختلف مستويات خطابه اللغوي وغير
اللغوي أيضا إنما ينتمي إلى الحضارة، وأن هذه الحضارة ما هي «في جانب أساسي منها
إلا مجموعة من القراءات للنص القرآني»[8]، سيتعذر
عليه فهمه وإنتاج معرفة علمية دقيقة به.
ولئن كان عباس أرحيلة
يؤكد العلاقة الوطيدة بين القرآن الكريم ومختلف النصوص التراثية ومن ضمنها كتب
البلاغة والنقد وغيرها، فذلك لأن لا سبيل إلى فهم الأنساق النظرية والتصورات
المعرفية والجمالية لهذه النصوص دون ربطها بمحور ارتكازها ومدار اشتغالها، فنشأة
النقد والبلاغة عند العرب ظلت متصلة – من خلال انشغالهما بالبحث عن مواطن جمالية
الخطاب اللغوي وأسرار مزيته - بالقرآن الكريم، بل إن الفضل في نشأة كثير من
مصطلحاتهما ومباحثهما وتطورها يعود إلى كتب الإعجاز ومباحث المفسرين والمحدثين
(مجاز القرآن لأبي عبيدة، طبقات الشعراء...)
وإذا كان فضيلة
العلامة عباس أرحيلة قد أثبت ذلك في كتابه "البحوث الإعجازية والنقد
الأدبي"، فقد رسخ فيه وأبرز الطريقة المنهجية في دراسة التراث وتحليله، وهي
طريقة ترى أن لا سبيل إلى النظر إلى مرحلة أو مفهوم أو تصور نقدي أو بلاغي أو غير
ذلك دون ربطه بأصوله ومتابعة امتداداته، والحفر في مختلف مستويات اشتغاله بحثا عن
ملامح تشكله ورصدا لتحولاته وتوظيفاته، فكل ما صدر عن القدامى في كل مرحلة من
المراحل يتأسس على ما سبقها ويؤسس لما سيأتي بعدها.
وللبرهنة على ذلك،
بحث في كل مظاهر تفاعل العرب – جاهليين ومسلمين - مع القرآن الكريم، فوقف عند قضية
تحدي القرآن للعرب ومحاولات معارضته، واستعرض آراء ومواقف الرعيل الأول من العلماء
والمتكلمين، واستنبط من كل ذلك الانبهارات النفسية والجمالية الأولى بالقرآن
الكريم والأنوية النصية المبكرة التي تفسر قضية الإعجاز وتستدل عليها أسلوبيا
ولغويا، ووقف أيضا عند إلحاح خلفاء الرسول (ص) وصحابته الكرام (ض) على اعتبار
الشعر الجاهلي مدونة لا مناص منها لفهم كثير من أساليب القرآن الكريم وتراكيبه
وعباراته[9]،
كما وقف كذلك عند ظهور اتجاه لغوي في تفسير القرآن الكريم مع "مدرسة عبد الله
بن عباس" سعى إلى الربط بين النص القرآني والشعر الجاهلي[10]،
فأبرز أن كل هذه الجهود وغيرها تمثل المرتكز الأول لنشأة "البحوث
الإعجازية"، وأنها ستسهم لاحقا في تشكل المصطلحات والتصورات التي ستمثل المهاد
الأولي للنقد والبلاغة العربيين.
لقد قامت أطروحة
الكتاب على بيان أن المفاهيم النقدية و«المصطلحات البلاغية تنفست في أجواء
الدراسات القرآنية في مراحلها الأولى»[11]،
وقد سعى إلى تأكيدها من خلال الكشف عن الخيط الرفيع الذي يربط بين كل البحوث
الإعجازية، ويؤسس للدرس البلاغي والنقدي ويطوره، فأوضح أن لا سبيل إلى فهم البحوث
الإعجازية في لحظات نضجها مع الرماني والخطابي والباقلاني دون النظر في قيمتها
ودروها في تطوير الخطابين النقدي والبلاغي، ومن غير ربطها أيضا بالنصوص والآراء
المبكرة في الإعجاز، وهي نصوص تظل قائمة في صلبها ومحركة لها ، وتؤكد أن أصحاب تلك
البحوث الإعجازية ما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من نضج نظري، وعمق
تحليلي، وقوة مفهومية دون الاستفادة مما قدمه المتأملون الأولون لقضية الإعجاز،
وعرض آرائهم في الموضوع مع الأخذ بها أو ردها ومراجعتها.
وتأكيدا لذلك حفر في
الآراء والأبحاث المبكرة في الإعجاز، فأوضح أن كتابي مجاز القرآن لأبي عبيدة،
ومعاني القرآن للفراء يمثلان المرحلة الأولى في التأليف في الإعجاز، وأنهما قاما
باستثمار الآراء السابقة في الموضوع وتطويرها، كما أن حديث الجاحظ في الموضوع سواء
في كتابه: نظم القرآن وغيره من كتبه الأخرى «كان معينا لأصحاب كتب الإعجاز على
توالي العصور.»[12]،
ويعتبر ابن قتيبة من أوائل من توسعوا في مفاهيمه البلاغية، «وخطا باللمع البيانية
عند أستاذه الجاحظ، وسعى إلى توسيع دلالات كثيرة من الألفاظ والمصطلحات التي أخذت
بعد ذلك بالتدرج في علوم البلاغة.»[13]
واستدلالا على فكرة
انطلاق الأبحاث المتأخرة من الآراء والنصوص الإعجازية الأولى، أوضح د.عباس أرحيلة
أن البحوث الإعجازية ستتوزع بين اتجاهات ثلاثة واضحة: اتجاه اعتزالي؛ واتجاه
أشعري؛ واتجاه أهل الحديث، وهي اتجاهات يلاحظ جليا من جهود أصحابها ومؤلفاتهم
حضورا قويا – وبدرجات متفاوتة - للآراء التأسيسة الأولى، وحرصا كبيرا – وبصيغ
مختلفة - على اقتراح مفاهيم جديدة أو صياغة تحديدات مغايرة للمفاهيم النقدية
والبلاغية السائدة على النحو الذي يبرز مواطن الجمال والإعجاز في الأسلوب القرآني،
وقد حرص د.عباس أرحيلة في متابعته لأصحاب هاته الاتجاهات الثلاثة على ربطها
بأصولها وامتداداتها بما يؤكد ترابطها وتداخها، وبكشف بجلاء « الرسم البياني
للمراحل التي قطعها الإعجاز منذ نزلت أول آية في التحدي، إلى نهاية القرن الهجري
الرابع»[14]،
وهو رسم استطاع من خلاله د.عباس أرحيلة أن يبرز أن تصورات ومفاهيم الطبري والقاضي
عبد الجبار والرماني والخطابي والباقلاني تظل مترابطة ومتفاعلة، وأن تفاعلاتها
أسهمت في تطوير المصطلحات البلاغية والنقدية والعمليات النظرية والتحليلية
المرتبطة بها، وهو ما أوضحه بدقة تحليلية ومهارة بيانية على امتداد كتابه.
والواقع أن القارئ
لكل كتابات عباس أرحيلة سيلاحظ انشغاله العميق بربط كل الأفكار والتصورات والأحكام
بأصولها الجنينية ومتابعة مختلف لحظات تشكلها واشتغالها، وهو ما نجده أيضا، وعلى
نحو مغاير، في كتابه "الأثر الأرسطي" الذي ركز فيه أولا على لحظة ترجمة
كتابي الشعر والخطابة لأرسطو مبرزا المستويين النظري والمنهجي الذين بلغهما النقد
والبلاغة العربيين في تلك اللحظة، ومستعرضا طبيعة انتقال تصورات الشعرية الأرسطية
وشروطه إلى أجواء الثقافة العربية، لينتهي استنادا إلى هذا المنهج المتبع في كشف
الأصول العربية لتصورات البلاغيين والنقاد إلى حدود القرن الثامـن للهجرة، وتأكيد
استحالة أن يؤثر ذينك الكتابين اللذين نقلا إلى العربية في أواخر القرن الهجري
الثالث بتلك اللغة الرديئة، في كتُاب وشعراء ونقاد وبلاغيين ظل القرآن الكريم – صرحوا
بذلك أم لم يصرحوا - هو محور اشتغالهم وتفكيرهم.
ولعل أهمية الإجراء
الحفري الذي اتبعه عباس أرحيلة تكمن أساسا في تركيزه أولا على كتابي أرسطو: فن
الشعر وفن الخطابة، ومتابعته لهما في أصولهما اليونانية وترجماتهما وتلاخيصهما
العربية، وهو إجراء سعى من خلاله إلى رفع الوهم عن كثير من الباحثين الذين افتتنوا
بمقولة التأثير الهيليني وراحوا يجعلون من بعض التقاطعات والتشابهات الشكلية في
تناول كثير من قضايا الأدب وظواهره " دليلا" على وجود انفاس أرسطية قوية
في التراث البلاغي والنقدي عند العرب، متغافلين في ذلك التدقيق في زمن استقبال
الذات العربية للكتابين والتحقيق فيها، ومتغافلين أيضا أن عملية الاستقبال تلك تمت
من خلال شروط نفسية وثقافية واجتماعية، بل وأيضا سياسية، وأن كل مقاربة او مقارنة تقفز
على ذلك – جهلا او عمدا- يتهددها العمى...فتلتمس في الوهم تعتقده كشفا
"للحقائق الغائبة".
ذلك أنه إذا لم يدرك
الباحث في قضية الأثر الأرسطي أن الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب بدأ يتشكل في
أحضان البحوث الإعجازية، وأن كثيرا من مصطلحاته ومفاهيمه وقضاياه تبلورت في معرض
البحث عن كشف أسرار القرآن اللغوية والفنية، وذلك قبل أن تظهر الحاجة الملحة إلى
"الاستعانة" بالمنطق الأرسطي أولا، أو أن يتأدى لهم علم بالكتابين، وإذا
لم ينتبه ذلك الباحث أيضا إلى أن العرب إنما كانوا يقرأون الكتابين معا لحسابهم
الخاص، وضمن شروطهم المادية والنفسية المختلفة؛ لا يمكنه أن يفهم التحولات النظرية
والمنهجية والتحليلية التي عرفها التراث البلاغي والنقدي عند العرب، ويستحيل عليه،
بالتالي الوقوف عند الخيط الناظم بين المفاهيم والتصورات النقدية والبلاغية في
لحظات تشكلها ونضجها.
والأكيد أن المشروع العلمي للدكتور عباس أرحيلة
بدأت تتضح ملامحه انطلاقا من كتابه الأطروحة: "الأثر الأرسطي"، وهو
مشروع ينبري للدفاع عن خصوصية الثقافة العربية الإسلامية، والتأكيد على أن أساس
هاته الحضارة ومحورها هو القرآن الكريم، ولعل هذا ما جعله يستهل أبحاثه بــ"
البحوث الإعجازية" ليبرز علاقتها الوطيدة بالبلاغة والنقد، شأنها في ذلك شان
كل العلوم العربية الأصيلة، ثم لينقل بعد ذلك إلى مقولة الأثر الأرسطي ليفحصها،
ويعري كثيرا من الأوهام والادعاءات التي وصمت دراسات الكثير من الكتاب، ثم ليبرز
أن المدخل لفهم ما قدمه كل النقاد والبلاغيين بل وحتى الفلاسفة المسلمين هو جهود
المؤصلين الأوائل لعلم البيان؛ أمثال العلماء الرواة من أمثال الجاحظ وابن قتيبة
وغيرهما، وليؤكد ألا سبيل لفهم ما قدمه الآمدي والجرجانيين وحازم القرطاجني دون
ربطه بجهود الرعيل الأول من اللغويين العلماء الرواة والبلاغيين.
ولا يخرج مصنفه:
مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع عن هذا الإطار، بحيث تابع فيه
الأنوية والملامح المبكرة الأولى لتبلور وعي عربي أصيل بقيمة خطاب المقدمات
وأهميته، وذلك من خلال بيان أثر فواتح السور ومطالع القصائد الجاهلية والإسلامية
واستهلالات الخطب وصدور المراسلات في تنبيه
العرب إلى أهمية عناصر التقديم والتصدير في الكتب والمؤلفات، ولئن كان قد
ركز على النصوص التي تنتمي إلى ما قبل القرن الثالث للهجرة، فذلك ليثبت أن عناصر
المقدمة في الكتب العربية الإسلامية عربية الأصل إسلامية البنية والوظيفة.
وفي رأيي إن المدخل
لفهم مشروع العلامة عباس أرحيلة يتمثل في
المنهج الحفري الذي ظل يتبعه في كل ما يكتب، فهو الذي مكنه من الرد على كثير من
الأوهام وتصحيح العديد من المغالطات التي
ظلت موصومة بحَوَل في القراءة وعمى في التأويل.
والمتتبع لخطوات هذا
المنهج يلاحظ أنه بدوره مستمد من أصول التفكير والبحث عند علماء المسلمين، بحيث
نجد بعض ملامحه عند الرعيل الأول من اللغويين والعلماء الرواة الذين أدركوا أن لغة
القرآن الكريم وكلام العرب الأفذاذ إنما يتأسس على بنية لغوية عميقة وتفكير عقلي
متجذر في البيئة العربية، إلا أننا نجد بعض عناصره النظرية والمنهجية عند أبي
عثمان الجاحظ في كثير من مباحثه في اللغة والبيان والشعر...
ولعل تركيز العلامة
عباس أرحيلة على الجاحظ واعتباره نقطة البداية في كثير مما كتبه ينطلق من وعيه
بقيمته التاريخية والمعرفية والمنهجية في هذا الإطار، يقول عباس أرحيلة: «وزمن
الجاحظ صادف، ما أطلق عليه، حركة التدوين (150-250هـ)، إذ انتقلت فيها
الثقافة الإسلامية العربية من عنفوانها الشفهي، على ألسنة البلغاء وأهل العلم في
المحافل والمنتديات والمساجد، إلى تسجيلها في الأوراق. وانطلقت فيها صناعة
التأليف، فكان أبو عثمان الجاحظ أحد أعلام التأليف الذين واجهوا تجربة تصنيف الكتب
أثناء انطلاقة حضارة الإسلام، وممن وطدوا هذه التجربة ورسخوها في حقل الأدب بشكل
خاص. وهي مرحلة تاريخية دخلت فيها اللغة العربية في بلورة هوية إسلامية، وبناء
ثقافة إنسانية، فوقعت في لحظتي اختبار وتحدّ، بدأت خلالهما تستجمع تاريخها
الثقافي، وتتطور لتعبر عن معترك العصر وما يحفل به من تحولات حضارية ضخمة في
جوانبها المادية والفكرية»[15].
كما أن هذا المنهج
الذي استند إليه د.عباس أرحيلة في دراساته وأبحاثه، والذي تنتظم ضمنه مقارباته
وتحليلاته في مختلف فصول كتبه ومباحثها قد تأثر فيه بالعلامة أمجد الطرابلسي في
كتابه الأطروحة: نقد الشعر عند العرب، ويعتبر الأستاذ: د.إدريس بلمليح أول من كشفه
وأبرز بعض محدداته وذلك في المقدمة التي خص بها ترجمته للكتاب[16].
وتدل المقارنة بين
كتاب د.أمجد الطرابلسي وما كتبه د.عباس أرحيلة على تماثل وتطابق كبيرين في الخطوات
المنهجية في الرصد والتحليل والمقارنة. وإذا كنا سنخصص عملا لبيان ذلك بتفصيل، فمن
الجدير بالإشارة هنا أن القارئ لنتاجات أستاذي المفضال :د.عباس أرحيلة يلمس كثيرا
روح د.أمجد الطرابلسي فيها، فهما معا يؤمنان ألا سبيل إلى النظر إلى التراث العربي
الإسلامي، وضمنه التراث النقدي والبلاغي عند العرب، نظرة تجزيئية تفصل إحدى
مكوناته أو نصوصه عن بعضها البعض، فالتراث عندهما وحدة متكاملة لامعنى لأي مكون أو
جزء منها بمعزل عن باقي المكونات، ومن هذا المنطلق يشددان معا على أن البحث يجب أن
ينصب على ربط القضية أو المفهوم المدروسين بأصولهما وامتداداتهما، سعيا إلى الكشف
عن الخيط الرفيع الذي يربط جهود السابقين ويوحدها... كما أنهما يلحان أيضا على أن
الموقف من التراث هو الذي يحدد طبيعة دراسته، وأن الباحث العربي محكوم بإدراك أن
التراث جزء من الهوية الهربية الإسلامية ومكون أساس من مكوناتها، وأنه معطى راسخ
في سلوكاتنا ومواقفنا وأفكارنا وموجه لها، وأن الانفصال عنه ضرب من الوهم تفضحه
الأنتروبولوجيا قبل مقولة "الفطرة" ، ومن ثمة فلا سبيل إلى التنكر له
والتبرؤ منه، وأن المطلوب هو العمل على الحفر في نصوصه وتطويره بما ينسجم مع الشرط
التاريخي والنفسي للذات العربية الإسلامية...
أما إذا تحدثنا عن
العلاقة الشخصية بين الأستاذين الجليلين: د.أمجد الطرابلسي و د.عباس أرحيلة، فإن
الوقت والحيز لن يتسعا لذلك ... ويكفي أن
نختم حديثنا هذا المقام بخصلة الوفاء التي ظلت تلازم د.أرحيلة في تعامله مع أستاذه
المرحوم د.الطرابلسي والتي جعلت الأخير يعتبره أكثر طلبته وفاء وإخلاصا...وهو ما
تجسد فعلا في كونه عباس أرحيلة هو الطالب الوحيد الذي خص أستاذه بكتاب علمي فيه من
الاحتفاء والأسى والحرقة على الفقد ما يشي بخصال أستاذنا عباس أرحيلة... ومواقفه
الإنسانية النبيلة ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق