د.يوسف الإدريسي - المغرب
[مقال نشر ضمن]
تقديم :
شغلت قضية
الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين حيزا كبيرا من اهتمام الباحثين، خاصة
المهتمين بهم بالأدب المقارن، لكونها تمثل في تصورهم مدخلا لمقاربة أوجه الحوار ومستوياته
بين الأدب العربي وغيره من الآداب والفلسفات القديمة، ولا سيما اليونانية منها؛
وتعتبر الثلاثينيات من القرن العشرين مرحلة بداية الانشغال الأكاديمي بمتابعة
الأنفاس الأرسطية في التراث الأدبي والفكري عند العرب، بحيث قام بعض الدارسين –متأثرين
بموجات الاستشراق المختلفة- بمحاولة إثبات أن التحولات التي عرفها العرب في الشعر
والنقد وسائر العلوم العربية القديمة إنما كان بفضل اطلاعهم على فلسفة أرسطو وحسن
إفادتهم منها، وهو ما لقي اعتراضا ومناهضة كبيرين لدى باحثين آخرين رفضوا الإقرار
بأي دور لأرسطو في ماعرفته الثقافة والفكر العربيين من تحولات وتطورات، مؤكدين أن تلك
التحولات والتطورات إنما كانت نتيجة النضج الطبيعي للعقلية العربية الإسلامية،
وبفعل حسن إفادتها من الآليات والمناهج التي تبلورت في أحضان العلوم الأصيلة .
ولئن كانت قضية
الأثر الأرسطي قد أسالت الكثير من المداد، وانتجت عشرات الدراسات والأطاريح[1]،
فمن الملاحظ أن الاتجاه الذي سار فيه أصحابها لم يخرج عن إطار الإقرار والتأكيد،
أو الرفض والتشكيك، دون أن تتمخض عنه رؤية مغايرة تحاول أن تتخلص من الإطار العام
الذي انتظمت فيه أحكام كل فريق من الفريقين، لتقارب القضية من زاوية أخرى، لا
تتموقع ضمن الإثبات التام أوالرفض المطلق، بل تحاول أن تسائلها من زاوية مغايرة
ترى أن الذات حين تستقبل نتاج الآخر، أيا كان هذا الآخر ومهما تنوع تراثه، تحرص –بوعي
أو دون وعي- على تأويله لحسابها الخاص ومنطقها الذاتي، فتخضعه لشروطها
"الظرفية" والموضوعية، والتي يكون فيها العنصران التاريخي والمعرفي
محددين أساسيين، وهو ما يعني في النهاية أن كل استقبال وإعادة إنتاج جديد للمطعى
المستقبل، يظل خاضعا لشروط التلقي وإمكانات التأويل..وما بعد التأويل...
ولعل أبرز ما
يؤكد هذا الطرح السياق الذي لجأ فيه العرب قديما إلى فلسفة أرسطو، فقد كان ظهور
المعلم الأول في أجواء الثقافة العربية الإسلامية مشروطا منذ البداية بالإجابة على
أسئلة الذات العربية ومطالبها برفع التحديات السياسية والفكرية والثقافية المطروحة
التي تواجهها، وتهدد كياكنها، وهو ما يتبدى من خلال حلم المامون الذي يظهر فيه
أرسطو بلباس العرب وسحنتهم، ويعتبر الدين الإسلامي رافدا أساسا وجوهريا من روافد
التشريع والتنظيم [2].
وقد ظلت هذه
"الرسالة" التي سعى إلى تأكيدها "محكي الحلم" حاضرة عبر مختلف
محطات تفاعل العرب قديما مع فلسفة أرسطو، وإن بدرجات متفاوتة. ولعل من أهم
المجالات التي يبرز فيها ذلك قراءتهم لقضايا النقد والبلاغة ومفاهيمهما في ضوء
شعريته، بحيث حاولوا أن يغنوا كثيرا من أفكارهم وتصوراتهم حول بنية الشعر وخصائصه
الجمالية ومحدداته الأسلوبية والتركيبة انطلاقا مما أورده في كتابيه: فن الشعر
وفن الخطابة، وهما مؤلفان يتحدث فيهما عن شروط إنتاج الخطاب الأدبي، ويحدد
عبر فصولهما وأجزائهما جملة الخصائص الأسلوبية والتركيبية التي تضفي قيمة جمالية
على الخطاب، وتوشحه بالأدبية .
ومن الواضح أن
تشابه قضايا الكتابين، وتقاطع البعض منها مع مباحث النقد والبلاغة وقضاياهما عند
العرب، كانا من أهم أسباب تزايد اهتمام الباحثين العرب المحدثين والمعاصرين بهما،
وحرصهم على مقارنة مقولاتهما بتصورات النقاد والبلاغيين القدامى، خاصة وأن ذلك
يمثل –في تصورهم- مدخلا حقيقيا لإبراز مدى استلهام العرب لتصورات أرسطو في بناء
منجزهم النقدي والبلاغي وتطويره نظريا وتطبيقيا ومنهجيا.
وبالرغم من
وجاهة هذا المسعى وأهميته، إلا أن أصحابه لم ينتبهوا إلى أهمية المباحث النفسية
ودروها في إثراء الحوار بين الشعريتين العربية واليونانية، ومن ثمة تطوير الرؤية
النقدية عند العرب، فقد مكنهم الاطلاع على شروحات وتلاخيص كتاب النفس الأرسطي من
تفسير كثير من الظواهر النفسية والجمالية التي كانت غامضة لديهم، ومن الإجابة على
أسئلة ظلت معلقة عندهم، فأنتجوا تصورا نظريا دقيقا وعميقا للعملية الإبداعية يحيط
بتجلياتها الشعورية، ويكشف كثيرا من أسرارها النفسية العميقة.
فما دور كتاب
النفس الأرسطي في بلورة تصور نظري عند العرب حول العملية الإبداعية؟ وهل كان العرب
فعلا مفتقرين لأي رؤية نقدية حول هاته العملية قبل اطلاعهم على كتاب أرسطو وظلوا
تابعين له ولشراحه من الفلاسفة المسلمين في تفسير ظواهرها وتوظيف المصطلحات الدالة
عليها والواصفة لها؟ أم أنهم كانوا يمتلكون بعض العناصر والمواقف القبلية التي
مكنهم تطويرهم لها من إنتاج رؤية نقدية خاصة بهم في ضوء ما تأدى إليهم من شروحات
وتلاخيص؟ ثم ما مدى إسهام ترجمة الشعرية الأرسطية وتلخيصها في جعل الأدب والفكر
منصة للتفاعل الحضاري بين العرب والثقافات القديمة للأمم الأخرى؟
1- الإبداع الشعري في الفلسفة الأرسطية :
من الموائم قبل
الحديث عن التصور النقدي لقضية الإبداع الشعري عند العرب، الوقوف أولا لاستجلائه
عند أرسطو، خاصة وأن من شأن ذلك أن يكشف لاحقا حدود التفاعل ودرجاته بين الشعريتين
العربية واليونانية.
ولعل أهم
ملاحظة تبرز في هذا الإطار أن أرسطو قد خص الأدب بمقاربة فلسفية عميقة، ظلت متحكمة
في المفاهيم والنظريات النقدية الحديثة والمعاصرة[3]، وهي مقاربة تناولت علاقته بالواقع المادي وأحاطت
بمكوناته الفنية وخصائصه الأسلوبية وبنياته التركيبية، كما كشفت طبيعته التأثيرية،
إلا أنها لم تلامس جانبه النفسي المتعلق بالذات الشاعرة والقوى الخيالية المتحكمة
في العملية الإبداعية، بحيث ظل دور الأنشطة الذهنية والعمليات الإدراكية للذات
الشاعرة مغيبا في حديثه عن الشعر، فلم يشر ولو بطريقة مقتضبة إلى أهمية الخيال وفاعليته
في الإنتاج الشعري، وتعتبر سهير القلماوي من بين أبرز الدارسين الذين سجلوا هاته
الملاحظة، تقول في هذا الإطـار: « إن أرسطو لم يذكر لفظا يدل على الخيال، ولا هو
في رأينا يتحدث عن هذه الملكة في وضوح دون
أن يذكرها كما يرى الأستاذ بتشر في كتابه القيم عن نظرية أرسطو في الشعر والفنون
الجميلة.»[4]
ولعل ماجعل
المؤاخذات تشتد على أرسطو أنه كان مدركا لأهمية الخيال، واعيا بدوره في الخلق
والإبداع، كما أنه خصه -باعتباره ملكة ذهنية وقوة إبداعية- بمقاربة عميقة ظلت
مؤثرة وموجهة للفكر الإنساني لعشرات قرون، وهي مقاربة ضمنها كتابه: في النفس،
وتابع فيها القيمة النفسية للخيال وأهميته الذهنية وفاعليته الإدراكية، وأبرز من
خلالها مختلف مستويات تشكله واشتغاله ودرجات تأثيره وتوجيهه للفكر والسلوك
الإنسانيين، بحيث قسم قوى الإدراك الذهني إلى خمس ملكات، هي: الحس المشترك والخيال
أو المصورة والمتخيلة والوهمية والحافظة ( الذاكرة )، وخص " المتخيلة "
بعناية بالغة، معتبرا إياها مصدر النشاط الإبداعي، إلا أن حديثه عنها وعن غيرها من
القوى الذهنية والملكات النفسية اقتصر على تناول جانبها الإدراكي، ولم يتجاوز ذلك
ليبن دورها في العملية الإبداعية.
ويبدو أن
فلسفته التجريبية وموقفه من الخيال المتسم بالتنقيص والتشكيك -شأنه في ذلك شأن
الفلاسفة العقلانيين- هو ما جعله لا يلتفت إلى هذا الجانب، ولا يفرده بمقاربة خاصة
في كتابه فن الشعر، بحيث اقتصر على النظر إلى الشعر من زاوية علاقاته اللغوية
والإدراكية والتأثيرية وغيرها بالمحاكاة، دون أن يربطه بأساسه الخيالي.
ولئن كان أرسطو
لم يربط أثناء حديثه عن الشعر بين الإدراك والإبداع ولم يقرب بين المحاكاة
والخيال، فقد قدم مع ذلك مقاربتين نفسية وشعرية ستفيد النقد والنقاد لاحقا، وترى
القلماوي أن هذا يكفيه، لأنه: « قد أوجد الأسس الأولى للتفكير في هذه الملكة.
فهناك صورة وهنا عقل وبين الصورة والعقل تتدخل ملكات وحواس ووجدان. فما دور كل
منها؟ وكيف تعمل؟ هـذا ما تركه أرسطو للنقاد من بعـده يجولون فيه.» [5]
ويبدو أن الفلاسفة المسلمين هم أول من حاول أن يحقق ذلك
فسعوا إلى مقاربة العملية الشعرية في علاقتها بأساسها النفسي ومصدرها الخيالي، وهو
ما تجلى لديهم من خلال نحتهم لمصطلح التخييل، وهو مصطلح لم يرد عند أرسطو ولا عند
غيره من الفلاسفة اليونان، وحاولوا من خلاله تدارك ما أغلفه أرسطو، فربطوا بين
الجانب الجمالي للشعر المتعلق بالمحاكاة والجانب الخيالي المتصل بالخلق والإبداع، مقيمين
بذلك نظرية المحاكاة الأرسطية على أساس نفسي واضح وكاشفين في الوقت نفسه « عن فهم
نسبي لملكة التخيل عند الشاعر، وفهم كامل
لطبيعة الإثارة التخيلية
التي يحدثها الشعر في المتلقي»[6].
وبالرغم من أهمية العمل الذي قام به الفلاسفة المسلمون،
وقيمة الإضافة التي أغنوا بها شعرية أرسطو[7]،
إلا أنهم لم يبرزوا بالوضوح النظري المطلوب بين الشعر وقوى الخيال النفسي، فلم
يصلوا بين الجانب الإبداعي في الشعر المتصل بالقوى الخيالية والجانب الفني المتعلق
بجمالية الخطاب وخصائصه الأسلوبية، كما لم يبينوا كيف يتمكن الشاعر من خلق عوالم
جمالية غير مرئية والتعبير عنها بلغة بديعة وأسلوب. ولعل السبب في ذلك يعود إلى طبيعة
عملهم المحصور في مجرد الشرح والتلخيص، بحيث كانوا في النهاية مجرد وسائط لتقريب
فلسفة أرسطو وشعريتهم، وهم ما جعلهم يحرصون على بسط آرائه دون تغييرها أو تعديلها
وتصحيحها.
وليس معنى ذلك أنهم لم تكن لهم تصورات وآراء في هذا
المضمار، فقد ضمنوا بعض رسائلهم وشروحاتهم إشارات متعددة تفسر -على نحو مقتضب
وبطريقة غير مباشرة- العملية الشعرية من منظور نفسي، إلا أنه تفسير لا يحسب لأرسطو
أو تصوراتهم بقدر ما يحسب لهم ولاجتهاداتهم الخاصة، وهي التصورات والاجتهادات التي
ستكون موضوع تفكير العديد من النقاد والبلاغيين العرب، الذين سينطلقون منها لإعادة
التفكير في العملية الشعرية من منظور نفسي.
وقبل الحديث عن النقاد والبلاغيين نتساءل: هل كان للعرب تصور نظري لقضية الإبداع
الشعري قبل اطلاعهم على الفلسفة الأرسطية؟ أم أنهم ظلوا يفتقرون إليه ولم يتحقق
لهم إلا بعد اطلاعهم على ما سطره أرسطو في كتابيه: فن الشعر و في النفس؟
2- الإبداع الشعري عند الرعيل الأول من الشعراء والمتأدبين:
ليس صحيحا أن
العرب لم يطرحوا سؤال "الإبداع الشعري" ولم ينشغلوا ببحث قضاياه
ومشكلاته إلا بعد اطلاعهم على الشعرية الأرسطية، وبفضل حسن الإفادة من كتبه في
الشعر والخطابة، كما أن من المجانبة للصواب القول إن تصورهم للإبداع الشعري
ومساءلتهم لظواهره النفسية وتجلياته الفنية كان مغرقا في "الخرافة"
بعيدا كل البعد عن الملامسة العلمية، لأنهم تساءلوا منذ بواكير نشأة الشعر عندهم
عن مصدره وأسباب إنتاجه والعوامل الذاتية والموضوعية المتحكمة فيه، إذ كيف يتأتى
لبعض الأفراد المماثلين لكل الناس –ظاهريا- أن يبهروا الأسماع ويسحروا الألباب بما
يمتلكون من قدرة خارقة على رؤية ما لا تدركه كل الأذهان، ومن طاقة فائقة على تصريف
الكلام وصياغته بأساليب إيحائية وتصويرية بديعة؟ ولماذا ليس في متناول كل الناس أن
يضربوا بسهام من الشعر، وأن يقولوا مثل ما يقوله الآخرون؟ ثم لماذا يستعصي حتى على
أولئك الممتلكين لتلك القوة الغامضة قول الشعر في كثير من الأحيان، فيغرقون في صمت
كئيب وحارق؟
وبقدر ما كانت
تنصرف تلك الأسئلة إلى البحث في الأسرار الدفينة للفعل الإبداعي للذات الشاعرة،
كانت تنشغل أيضا وتربط ذلك بتعبيره الفني والجمالي.
وقد دفعتهم
الإجابة عليها في البداية إلى تبني فكرة أن الشعر إلهام لكائنات خارجية تصطفي
الذات الشاعرة دون بقية الناس، وتتصل بها لتنفث فيها كلاما بديعا وساحرا لا يستطيع
أحد قول مثله. وقد سموا تلك الكائنات بالشياطين والجن، وأكدوا أنها تستوطن
"وادي عبقر".
وإذا كانت تسمية الجاهليين للكائنات الملهمة وتعيينهم
لفضاء الإلهام بأسماء محددة ذات قيمة دلالية ورمزية هامة، فإنها تشي بتصور أولي
مُبَكِّر في الثقافة العربية لطبيعة الشعر وبعض خصائصه الفنية. وهو تصور وإن لم
يكن ضاربا في عمق المعاينة العقلية والتفكير النقدي، إلا أنه انطوى على بعض
المواقف والأحكام التي تعكس التصور "النقدي" المبكر لنشأة الشعر ومصدر
الشاعرية.
ويكفي لبيان
ذلك تأمل دلالة كلمتي: الشيطان والجن في ذاتهما وفي علاقة كل واحدة منهما بالأخرى،
ثم في علاقتهما معا بالشعر؛ فقد جاء في لسان العرب بخصوص كلمة "شيطان":
« (...) شَطَنَ (...) أصله الشاطن: البعيد عن الحق (...) والشيطان فيعال من شَطَنَ
إذا بعد فيمن جعل النون أصلا، وقولهم: الشياطين دليل على ذلك. والشيطان: معروف (...)
والشيطان نونه أصلية (...) ويقال أيضا: إنها زائدة (...) إن جعلت نون الشيطان
أصلية كان من الشَّطن البعد أي بعد عن الخير أو من الحبل الطويل كأنه طال في الشر،
وإن جعلتها زائدة كان من شاط يشيط إذا هلك، أو من استشاط غضبا إذا احتد في غضبه
والتهب (...)»[8]،
أما بالنسبة إلى كلمة "الجن" فأصلها من الجنن، نقول: «جَنَّ الشيء يجُنه
جَنًّا: ستره. وكل شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك. وجنه الليل يَجُنه جَنَّا وجنونا
وجَنَّ عليه يَجِنُّ، بالضم، جنونا وأجَنَّه: ستره(...) وفي الحديث: جنَّ عليه
الليل أي ستره، وبه سمي الجِنُّ لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجنين
لاستتاره في بطن أمه.»[9]
لعل أول ملاحظة تتبادر إلى الذهن من خلال تعريف كلمتي
"الشياطين" و"الجن" أنهما تشيران معا إلى كائنات غيبية ضالة
مُضِلَّة؛ ذلك أنها لا تُرى ولا تُدرك بالحس، وتنصب فخاخ الغواية والتضليل للإنسان
لتبعده عن طريق الحق والرشاد. ولاشك أن ربط الإنسان العربي في الجاهلية وصدر
الإسلام الشعر والشعراء بهذه الكائنات لم يكن اعتباطيا، إذ في غياب الخطاب العلمي
الواصف للعملية الشعرية بالمصطلحات والمفاهيم النقدية الدقيقة، والذي لم يبدأ في
التشكل -لأسباب علمية وجمالية- إلا في القرن الثالث للهجرة، وأمام التساؤلات
الشائكة والملاحظات الدقيقة التي كانت تثيرها الظاهرة الشعرية حول اختلاف خطابها
عن سائر الخطابات المألوفة، وارتباطها بلحظات نفسية وزمنية وفضاءات طبيعية خاصة،
كان طبيعيا أن يستثمر الجاهليون والإسلاميون لغة الإيحاء والترميز لتضمين بعض
آرائهم وأحكامهم، التي تقوم العملية الشعرية، من جهة منتجها وتحققها النصي،
وبالرغم من طابعها البدائي المغرق في الخرافة، إلا أنها تحمل وجهات نظر خاصة،
وتنطوي على "تصورات نقدية مبكرة" .
ذلك أن
أصحابها-وهم شعراء أساسا- كانوا يرومون التأكيد على الطابع الغرائبي لخطابهم،
وبيان أن خصوصيته الجمالية لا تتحقق إلا عبر الانزياح عن الأشياء المعقولة
والمعروفة، والتعبير عن ظواهر ومعطيات غير حقيقية، أو "بعيدة عن الحق"
بلغة لسان العرب.
ويتقاطع هذا
التصور، الذي يرجع الشعر إلى شياطين الجن، مع موقف القرآن الكريم من نوع معين من
الشعر، ربطه بالأهواء والهيامات، وذلك في قوله تعالى في سورة الشعراء: (وَالشُّعَرَاء
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ{225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ{226} إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً
وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ{227}). ذلك أن هذه الآيات تؤكد أن نهج الشعراء ومهيعهم هو
الهيام والكذب في القول، وهما سمتان دالتان على أن طريق الشعر متشعبة المسالك
وملتوية الأساليب، وأنها تجول بالفكر في كل اتجاه، وتخرق بالرؤى حجب الحس وقيود
الحقيقة وضوابط العقل. وتعتبر كلمة "الهيام" في الآية الكريمة: «صفة من
لا مسكة معه و لا رجاحة معه، وهي مخالفة لصفات ذي الحلم الرزين والعقل الرصين»[10]،
وتدل على أن القرآن أقر كما أشار إلى ذلك إحسان عباس « للشعراء بعالم مستقل وميزهم
بالانحياز إلى الخيال دون أن يسمي ذلك خيالا »[11] .
وإذا كان ربط
العرب قديما الشعر بالشياطين والجن يستهدف التنبيه على خصوصيته الجمالية المتصلة
بعالمه الفني ودلالاته الجمالية، فإن تأكيد الشعراء على أن مصدره كائنات غيبية، لا
يروم إضفاء هالة خيالية على العملية الإبداعية عن طريق ربطها بكائنات مخيفة فحسب،
ولكنه ينشد كذلك التشديد على طابعه الغرائبي الذي يجعله خفيا على الإدراك وعصيا
على الفهم والتفسير، ولعل هذا ما جعلهم يربطونه بكائنات غير مرئية، إذ
"الجن" كما سبق من الاستتار والخفاء عن الأبصار، ومن هنا تأتي أهمية
زعمهم أن الشعراء يلتقون مع ملهميهم في: "وادي عبقر"، وهو مكان سري لا
يهتدي إليه إلا من تم انتقاؤه ليصبح شاعرا.
ومن الواضح أن
اختيار التسمية لم يكن اعتباطيا، فاصطفاء أفراد دون آخرين ليصبحوا شعراء يستند إلى
بعض المميزات التي تسم قدراتهم الذهنية والإدراكية والتي تشير إليها كلمة "العبقرية"، كما يرتكز على الطاقات
التعبيرية والخصائص الإيحائية لكلامهم، والتي تتحدد في غزارة الإنتاج وتدفقه، وهو
ما ترمز إليه كلمة "وادي". مما يعني أن "شياطين الجن" لا تهدي
أيا كان إلى مكان وجودها، ولكنها تختار أفرادا معدودين، يتسمون بملكات نفسية
وذهنية، وقدرات تعبيرية خاصة. وإذا كان العرب قديما قد استندوا إلى اللغة المجازية
للتعبير عن مواقفهم وأحكامهم حول الشعر والشعراء، فإن هذه المواقف والأحكام هي
التي ستتضح وتنضح في الخطاب النقدي، وسيتم التعبير عنها في معرض تعريف الشاعرية،
ومن خلال مصطلحات عديدة من قبيل: "الفحولـة" و"الذكاء" و
"القريحة" و "الخاطر"...
ويبدو أن
الشعراء الجاهليين والإسلاميين لم يكونوا مقتنعين بفكرة شياطين الجن، ولكنهم كانوا
يتعمدون توظيفها بغاية إضفاء نوع من الغرائبية على خطابهم، ومن ثمة على ذواتهم
التي لا تأبه بمواجهة المخاطر، ولقاء الكائنات الغيبية. وإذا كان التراث العربي قد
حفل بالعديد من الأخبار والشواهد النصية التي تؤكد أن لكل شاعر شيطانا من الجن
يصاحبه ويلهمه الشعر، فإن تأملها يؤكد ما سبق قوله من كون أصحابها ضمنوها ملاحظات
وآراء نقدية حول العملية الشعرية تنسجم مع طبيعة الوعي النقدي الذي كان سائدا
عندهم، ومن النماذج الدالة على ذلك قول امرئ القيس:
تخيرنـي الجـن
أشعارهـا فما شئت من شعرها انتقيت
وقول حسان
بن ثابت:
ولي صاحب من
بني الشَّيْصَبان فطـورا أقـول وطورا
هـوه
وفي السياق
نفسه يقول أبو النجم العَجَلي:
وإني وكـل
شاعـر من البشـر شيطانه أنثى وشيطانـي
ذكـر
ويقول أيضا الأعشى ميمون بن قيس:
وما كنت ذا
خوفٍ ولكن حسبتني إذا مَسْحَلٌ يُسْدي لي
القولَ أنْطِقُ
شريكان في ما
بيننا من هـوادة صفيـان إنسـي وجـن
موفـقُ
يقـول فلا
أعيـا بقـول يقولـه كفانـي لاعـيٌّ ولا
هـو أخرق
يبين تأمل الأبيات
الشعرية أن كل واحد من أصحابها عبر عن تصورات متفاوتة ومختلفة، فامرؤ القيس –وإن
كان يقر بفكرة الإلهام الشعري- أكد أن شيطانه الشعري لا يسلبه حريته وإرادته في
القول الشعري، ولا يعتبره مجرد "رسول" عليه أن يوصل أشعاره إلى الناس،
بل يعرض عليه جملة من القصائد، ويترك له حرية اختيار ما شاء منها. والشاعر بذلك
يروم أن يرسخ بذلك فكرة تفوقه الشعري، ليس على بني البشر، بل حتى على الجن، لأن في
دعوتها له إلى انتقاء أشعار دون غيرها، إقرار بعجزها، واعتراف له بامتلاك ذوق
جمالي خاص ومعرفة عميقة بأسرار الشعر وقدرة فائقة على تصنيفه في سلم الجمالية.
وخلافا لامرئ القيس يشير حسان بن ثابت إلى أنه يتناوب مع
شيطانه قول الشعر، إذ يتكفل كل واحد منهما بقوله في لحظات معينة. بيد أن ما يميز
بيت حسان كونه يسمي قبيلة صاحبه، فاختار لها كلمة غريبة يصعب النطق بها لكونها
متقاربة مخارج الحروف، وكأنه بذلك أراد الإشارة إلى غرابة العملية الشعرية
وصعوبتها.
أما أبو
النجم العجلي، فقد حاول أن يرجع تفوقه على غيره من الشعراء إلى كون قرينه جني ذكر،
بينما قرينات الشعراء الآخرين جنيات. ومن الواضح أن الشاعر هنا يستثمر –بالنظر إلى
اللحظة التاريخية والمعرفية التي عاش فيها- بعض التصورات النقدية الناشئة، خاصة مع
الأصمعي في مصطلح الفحولة الذي استثمر دلالته، فأرجع التفوق في الشاعرية إلى عامل
ذكوري أساسا[12].
أما الأعشى
فلم ير في قرينه من الجن أي مصدر للشر أو سبب للخوف، ولكنه شريك له في الإبداع
الشعري، ومعين له على إنتاج نصوص شعرية بديعة. وهو وإن كان سماه باسم غريب (مسحل)،
فإنه جرى في ذلك على نهج الشعراء والمتأدبين قديما الذين ظلوا يحرصون على التصنع
والغرابة في تركيب أسماء شياطين الشعر وأسماء آبائها[13]. ويبدو من خلال تأمل تلك الأسماء أنها لم تكن مقصودة
لذاتها، بقدر ما كانت تروم تسجيل بعض الملاحظات والأحكام حول أساليبهم الشعرية
وملكاتهم الشاعرية، وهو أمر كان طبيعيا بالنظر إلى خصوصية اللحظة التي قيلت فيها،
إذ في ظل غياب خطاب نقدي قادر على وصف العملية الشعرية بلغة علمية دقيقة، كانت
اللغة الإيحائية والعبارات الترميزية تعوض ذلك النقص كما سبق القول، ويكفي تأمل
نماذج من أسماء شياطين الشعراء التي أوردها أبو زيد القرشي في كتابه جمهرة أشعار
العرب لتبين ذلك:




يشي تأمل هذه
الأسماء بأن اختيارها لم يكن اعتباطيا، بل كان يرمي إلى تحديد بعض الخصائص
الجمالية التي تميز كل شاعر على حدة، ومن ثمة ينطوي على أحكام تميز أساليبهم،
وتبرز الصفات التي تميزوا بها والتي تتفاوت بين الإبداعية (ماهر) والإدراكية
(مدرك، لاحظ) والتعبيرية (لافظ، هادر).
ومن ثمة،
فبالرغم من الطابع الخرافي لهذا المعتقد الذي يروم إدخال المتلقي في عالم العجائب
والغرائب، وإيهامه بتوعر سبل التوصل إلى قول الشعر، إلا أنه يشير ضمنا إلى بعض
الخصائص الفنية والشروط الجمالية التي تميز القول الشعري، ويجب أن تتحقق في الذات
الشاعرة، والتي توحي ببعضها أسماء شياطين الشعر. وبالرغم من عراقة هذا التصور عند
العرب إلا أنهم سيخلون عنه تدريجيا، وسيستبدلونه بتصورات وآراء تحاول أن تفهم
العملية الإبداعية في علاقتها بالذات الشاعرة وخصوصياتها النفسية والإدراكية، وهو
ما بدأ يتحقق خلال القرن الثاني للهجرة.
3- التفسير البياني لقضية الإبداع الشعري عند العرب:
يلاحظ الباحث
في قضية الإبداع الشعري عند العرب أن الشعراء أخذوا يتخلون بداية من العصر الأموي
عن الإيمان بفكرة شياطين الشعر، وذلك نتيجة وعيهم أن ذواتهم هي مصدر الشاعرية، وأن
إدراك أسرارها النفسية وغوامضها الإبداعية يتطلب معاينة حركيتها الذهنية والنظر في
نشاطها الإدراكي، وتحديد طبيعة القوى الغريزية والطاقات الشعورية التي تنتجها، ثم
رصد بواعثها الذاتية ومثيراتها الموضوعية. فأصبح الشعر عندهم صناعة وعلما وليس
إلهاما، وهذا مايشير إليه قول الجاحظ :« إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من
التصوير.» [14]،
ويؤكده قول القاضي الجرجاني إن: « الشعر علم من علوم العرب.»[15]
ولأن اللحظة
التاريخية والمعرفية التي حكمتهم لم تكن تسمح لهم بإنتاج تصور علمي يفسر تلك
الظاهرة ويبين أسبابها ومؤثراتها الذاتية والموضوعية، فقد استعاضوا عنها بلغة
الإبدال، وألمحوا إليها بالعديد من الإشارات التي لا تكتفي بالتنبيه إلى الظاهرة
بل تسائلها في ذاتها وتجلياتها.
وتكفي العودة
إلى مأثورات الشعراء والمتأدبين خلال العصرين الإسلامي والأموي ليتبين أنهم كانوا
يؤكدون أن الفعل الإبداعي نشاط واع وإرادي للذات، وأنه لا يرتهن إلى الخارج بل
يصدر من الداخل، ويحتاج إلى فضاءات خاصة وترافقه طقوس معينة، جاء في العمدة: « لابد
لكل شاعر- وإن كان فحلا، حاذقا، مبرزا، مقدما- من فترة تعرض له في بعض الأوقات: إما
لشغل يسير، أو موت قريحة، أو نبو طبع في تلك الساعة أو ذلك الحين. وقد كان
الفرزدق- وهو فحل مضر في زمانه- يقول: تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون
عليّ من عمل بيت من الشعر. فإذا تمادى ذلك على الشاعر قيل: أصفى وأفصى، كما يقال "أفصت
الدجاجة" اذا انقطع بيضها (...) ثم إن للناس فيما بعد ضروبا مختلفة: يستدعون
بها الشعر، فتشحذ القرائح وتنبه الخواطر، وتلين عريكة الكلام، وتسهل طريق المعنى: كل
امرئ على تركيب طبعه، واطراد عادته (...) نجد الشاعر تكل قريحته مع كثرة العمل
مرارا، وتنزف مادته، وتنفد معانيه، فاذا أجم طبعه أياما- وربما زمانا طويلا- ثم
صنع الشعر جاء بكل آبدة، وانهمر في كل قافية شاردة، وانفتح له من المعاني والألفاظ
ما لو رامه من قبل لاستغلق عليه، وأبهم دونه، لكن بالمذاكرة مرة؛ فإنها تقدح زناد
الخاطر، وتفجر عيون المعاني، وتوقظ أبصار الفطنة، وبمطالعة الأشعار كرة؛ فانها
تبعث الجد، وتولد الشهوة (...) .» [16]
يتبين من خلال
هذا النص أن العرب كانوا واعين بأن العملية الإبداعية تخضع الشاعر لمنطقها الخاص
وحركيتها الفريدة، وأن الإبداع ليس فعلا آليا ونشاطا ذهنيا تستجيب به النفس لإرادة
الشاعر متى شاء وأين شاء، بل إنه تحكمه كثير من العوامل والضوابط النفسية الباطنية
التي يصعب تفسيرها والتحكم فيها، وتظل غامضة ومنفلتة، وعصية على الفهم والانقياد،
وهذا ما يجعل الكثير من الشعراء يتحسسون رغبة جامحة في قول الشعر أحايين كثيرة إلا
أن ملكتهم الشعرية لا تسعفهم ولا تستجيب لهم.
ولئن كانوا قد
أرجعوها في بواكير نشأة الشعر إلى كائنات غيبية، فسرعانما تخلوا عن هاته الفكرة،
وأخذوا يؤكدون الطبيعة الإرادية للعملية الإبداعية، باعتبارها نابعة من الذات،
ويبحثون عن العوامل النفسية والموضوعية التي تستثير الملكة الإبداعية وتطلق العنان
لها، وفي هذا الإطار تنظم جملة من الحكايات والأقوال التي تبين أن الشعراء والرعيل
الأول من العلماء أدركوا أن الذات الشاعرة تحتاج أحايين كثيرة إلى جملة مؤثرات
ومحفزات داخلية وخارجية لتتفتق قدرتها التعبيرية وطاقتها الإبداعية، وقد أرجعوا
ذلك إلى الطرب وشرب الخمر والخروج إلى الفضاءات الطبيعية الخلابة واختيار أوقات
معينة للإبداع، ومن بين تلك الحكايات والأقوال ما أورده ابن رشيق في كتابه العمدة:
« قيل لكثير: كيف تصنع اذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المَحيلَةِ؛
والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع
إلي أحسنه (...) وقال الأصمعي: ما استدعي شارد بمثل الماء الجاري، والشرف
العالي، والمكان الخالي- وقيل الحالي، يعني الرياض- (...) وقالوا: كان جرير إذا
أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلا:يَشعل سراجه و يعتزل، وربما علا السطح وحده فاضطجع
وغطّى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. يحكى أنه صنع ذلك في قصيدته التي أخزى بها بني
نمير (...) وروي أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خاليا
منفردا وحده في شعاب الجبال وبطون الأودبة والأماكن الخَربة الخالية، فيعطيه
الكلام قياده. حكى ذلك عن نفسه في قصيدته الفائية :
عَزَفَتُ بأعشاش وما كدتَ تعزف
(...) وقيل لأبي نوّاس: كيف عملك حين تريد أن تصنع
الشعر؟ قال: أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفسا بين الصاحي و السكران صنعت وقد
داخلني النشاط وهزَّتني الأريحية (...) .» [17]
لا تؤكد هذه
النصوص أن الشعراء والمتأدبين قطعوا نهائيا مع خرافة الإلهام فحسب، ولكنها تبين
أيضا أنهم أخذوا يفكرون في العملية الإبداعية في علاقتها بالذات الشاعرة والنفس
المبدعة، ويسعون إلى تفسيرها تفسيرا مقنعا، وهو ما لم يتأت لهم بالنظر إلى تأخر
نضج التفكير النقدي في العملية الإبداعية، وصعوبة مقاربة هاته العملية بغير
المصطلحات النفسية. ولذلك فقد ظلوا متفقين على أن النفس الشاعرة لا تستجيب لرغبة
البوح الشعري لدى صاحبها إلا ضمن أجواء خاصة، وفضاءات فريدة، أما إذا سألناهم ماذا
يحدث بالضبط لدى الشاعر حين يتناول شرابا مسكرا أو يسمع لحنا شاجيا أو مطربا أو
يخرج إلى أماكن طبيعية خلابة في أوقات معينة فلا أحد منهم يمكنه أن يجيب على هذا
السؤال، لأنهم إنما كانوا يصفون الحالات التي تحدث لهم، ويعبرون عن التجارب التي
عاشوها بأنفسهم أوعاشها من كان قبلهم من الشعراء، ولم يتحصل لديهم علم بالنفس
يمكنهم من فهم أن القوى الخيالية تحتاج -لكي تبدع وتخلق عوالم جمالية جديدة
وجميلة- أن تتحرر من قيود العقل ورقابة الفكر، وهو ما لا يتأتى لها حين يكون
الإنسان منغمسا في صخب العلاقات الاجتماعية معرضا لكل أنواع التشويش والإرباك التي
تؤثر على تركيزه النفسي وصفائه الذهني، ولذلك فمالم يلجأ بنفسه وخياله بعيدا عن
الواقع المادي المبتذل، ومالم يختل بذاته وهواجسه بعيدا عن الناس ومشاكلهم يصعب
عليه أن يبدع، ويظل يستشعر حالة الوجع وشدة المخاض التي لن تنتهي بالميلاد السعيد
للقصيدة إلا إذا وجد لنفسه وذهنه مكانا مناسبا واختار له لحظة شعورية ووقتا زمنيا
مناسبين.
وقد وجد الجواب على هاته المسألة عند الفلاسفة المسلمين
الذين أكدوا أن المدخل الصحيح لفهم ما يعتور الذات الإنسانية ويعوقها عن الاستجابة
لرغبة التعبير الجمالي هو فهم النفس الإنسانية ومعرفة أحوالها وكيفيات اشتغال
مداركها، ويعتبر الفارابي الفيلسوف العربي الوحيد الذي أشار في كتاب الشعر لهاته
المسألة وعبر عن وعيه بها، فقد أكد أن البحث في العملية الإبداعية أمر صعب، ويقتضي
حصول
معرفة دقيقة بأمر النفس الإنسانية وبقواها الإدراكية، وهو ما عبر عنه بقوله: « إن
أحوال الشعراء في تقوالهم الشعر تختلف في التكميل والتقصير. ويعرض ذلك إما من جهة
الخاطر، وإما من جهة الأمر نفسه. أما الذي يكون من جهة الخاطر فإنه ربما لم يساعده
الخاطر في الوقت دون الوقت، ويكون سبب ذلك بعض الكيفيات النفسانية: إما لغلبة
بعضها، أو لفتور بعض منها مما يحتاج إليها. والاستقصاء في هذا الباب ليس مما يليق
بهذا القول، وذلك تبين في كتب الأخلاق وأوصاف الكيفيات النفسانية وما توجبه كل
واحدة منها.»[18]
ولئن
كان الفارابي يشدد على ضرورة تحصيل معرفة علمية بالنفس قبل تفسير العملية
الإبداعية ووضفها، فمن الملاحظ أنه ظل في حديثه هنا مقتصرا على المقاربة العربية
الأصيلة، لكونه استعمل مصطلح الخاطر، وهو مصطلح لم يكن موضوع تفكير أرسطو في كتابه
في النفس ولا مجالا لاشتغاله. لأن أسطو كان يتحدث عن القوى الخيالية، ويسميها
بمصطلحاتها الخاصة، ويعتبرها مصدر الإبداع
وأساسه، كما كان يشرط اشتغال هاته القوى بالتخلص من قيود الحس والعقل والفكر، وهو
ما عبر عنه الفارابي بقوله: " مالم تغلب". وتتضح هاته المسألة في قول
ابن سينا« والقوة المتخيلة خاصتها دوام الحركة ما لم تغلب»[19]،
وهو قول يفسره ابن رشد بقوله:« فعل هذه القوة
يجود بالسكون، ويختل مع حضور المحسوسات»[20].
معنى ذلك أن «
الحركة الإبداعية للمتخلية تبلغ أعلى مستويات تحررها وحيويتها في النوم، لأن فيه
تسكن كل قوى الإدراك وتبسط المتخيلة سلطتها المطلقة على كل ملكات النفس، فتخضعها
لمنطقها الإدراكي»[21]،
كما «أن الحركة الذهنية للمتخيلة لا تستمر على حالة واحدة، إذ يختل نشاطها
الإدراكي ويضعف باشتغال الحواس، ويقوى ويتضاعف حين تتحرر من قيود الحس وتتخلص من
السلطة الشعورية للوعي والفكر.»[22]
إذا كان ذلك
يعني أن المدخل لتفسير العملية الإبداعية يمر ضرورة عبر معرفة أمر النفس البشرية،
وأن كل مقاربة تكتفي بالحديث عن الجانب الجمالي وتغفل أساسها النفسي ستظل ناقصة،
فإننا نلاحظ أن بعض النقاد والبلاغيين العرب حاولوا القيام بخطوات في هذا المضمار،
مشددين على ضرورة الربط بين الشعر وقوى النفس البشرية، دون أن يعني ذلك إفادتهم من
أرسطو وغيره، ولعل أول من خطى الخطوات الأولى في هذا الاتجاه هو القاضي الجرجاني،
فقد أدرك أن الحديث عن الشعر والبحث عن أسراره الدفينة، سيظل غير ذي جدوى ما لم
يتم التأكيد على صفته "الإنتاجية" وطبيعته "النفسية"، لأنه في
نظره خطاب لا يتأتى إلا بحصول خصال نفسية وقوى إبداعية ضرورية، واستنادا إلى طرق
إدراكية مغايرة للمألوف، وقد أجمل ذلك في قوله: « الشعر علم من علوم العرب يشترك
فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن
اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز؛ وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان
(…) وتجد (…) الشاعر أشعر من الشاعر، والخطيب أبلغ من الخطيب؛ فهل ذلك إلا من جهة
الطبع والذكاء وحدة القريحة والفطنة!»[23]
فالشاعرية
بوصفها قدرة خارقة على الحدس بجمال الظواهر وموسيقاها الخفية تتحصل في النفس
بتفاعل ثلاثة عناصر: « الموهبة أو الطبع، والثقافة أو الرواية، ثم الممارسة
المستمرة أو الدربة» [24] ، ويعد الطبع شرطا أولا لتحققها، وخصلة نفسية مسببة
لها، ودالة على استعداد الإنسان ذهنيا وتهيؤه غريزيا لقول الشعر والبراعة فيه؛ إذ
« الطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي
من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها» [25] .
وقد حظي
الطبع في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب بقيمة خاصة، وصارت جمالية الأشعار
تقاس لديهم بمدى ملاءمتها لمقتضياته الإبداعية أو مفارقتها له، ومرد ذلك إلى كونه
«يتضمن – فيما يتضمنه – تلك القوة التي تستثار» [26] ، بالمثيرات العاطفية والطبيعية، والتي يتمكن الشاعر بواسطتها « من إدراك
المتشابهات حتى إن تكتمت على نفسها واتشحت بالغياب »[27].
بيد أن
الطبع ليس وحده كافيا لاشتغال قوى الشاعرية، بل لابد أن يكون فكر الشاعر وذهنه
حادا وسريع التفطن إلى جهات تشابه الظواهر والمعطيات الطبيعية وتماثلها ، وألا
يقبل من الصور التي يوردها عليه خاطره وتناجيه بها هواجسه إلا بتلك التي تنطوي على
طاقة جمالية دائمة التوهج والإيحاء، وهذا أمر لايتأتى إلا إذا ترابطت قوى الشاعر
وتناغمت حركاتها الشعورية والإبداعية ، وامتدت برؤاه التخييلية إلى أبعد مواطن
الخلق والابتكار؛ وهذا مايعبر عنه بشار بن برد في معرض إجابته عن سؤال: « بم فقت
أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ قال: لأني لم أقبل
كل ماتورده علي قريحتي، ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن،
ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفكر جيد، وغريزة قوية، فأحكمت
سبرها، وانتقيت حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت عن متكلفها، ولا والله ماملك
قيادي الإعجاب بشيء مما آتي به.» [28]
يعين بشار هنا
مستويين من مستويات الإبداع الفني: يتصل أولهما بالقوى النفسية والملكات الذهنية
التي يعتمد عليها الشاعر في إنتاج رؤاه التخييلية، ويحددها في الطبع والغريزة
والقريحة والفكر والفطن؛ ويتعلق ثانيهما بالمنطق الحركي الذي يسم عملية الخلق
الشعري، ويميز تفاعله مع العالم والأشياء .
وفي هذا الإطار
يرى أن الإبداع الشعري فعل تحرر دائم من العلاقات الحسية الثابتة والمبتذلة التي
تسود بين الظواهر والأشياء، ورؤية مغايرة للوجود بهدف القبض على الجوهر الحقيقي
لمعطياته، والنفاذ إلى جمالها الخفي والدائم؛ كما يرى أن الشاعر المطبوع هو ذاك
الذي لايرضى بكل ماتورده عليه قريحته وغريزته، ولايقنع بما تناجيه به هواجسه، بل
يكد ذهنه ويحرك خيالاته ليصل إلى المعاني والصور الفنية العقم، ويظل مع ذلك مسكونا
بحالات من الوجع الإبداعي والقلق النفسي، لأن ما يقوله لا ينال رضاه، ولايعكس بدقة
– في تصوره – التخاييل التي تخالج خاطره وترتسم في ذهنه، ولذلك فكلما "انتهى"
من تشكيل أحد أعماله الشعرية إلا واشتعلت في وجدانه رغبة متأججة لخوض غمار تجربة
إبداعية جديدة .
ولم يتوقف
العرب في بدايات نشأة تفكيرهم النقدي عند تفسير قضية الإبداع الشعري وتعليلها عند
هذا الحد المتصل بتسمية "قوى نفسية" ووصف الحالات الوجدانية التي تتلبس
الشاعر اثناء إبداعه الشعري، بل ذهبوا ابعد من ذلك، بحيث حاولوا أن يرجعوا تفاوت
درجات الشاعرية واختلاف أساليبها ومستوياتها إلى التركيب الفيزيولجي للذات، وفي
هذا الإطار يقول القاضي الجرجاني: « وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه
أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الأخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره؛
وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلق.»[29]
يتبين مما سبق
أن العرب قد انشغلوا منذ بواكير نشأة تفكيرهم النقدي بتفسير ظاهرة الإبداع الشعري
وتعليلها، وقد سلكوا في هذا السبيل مسلكا خاصا تمثل في القطع مع التفسير الخرافي
الذي كان يرجع العملية إلى قوى غيبية، وأخذوا يسائلون الذات في علاقتها بالعالم
والآخرين وفي تكوينها النفسي، ولئن كانوا قد أرجعوا العملية الإبداعية إلى: الطبع
والخاطر والقريحة والغريزة، معتبرين إياها قوى نفسية للخلق والايتكار، فإنهم قد
عبروا بذلك عن وعيهم بأن المدخل الصحيح لفهم الشعر وإدراك أسراره الإبداعية يتمثل
في ربطه بالنفس. وبالرغم من قيمة هذا الوعي وتلك المحاولة إلا أنها تظل قاصرة عن
التفسير العلمي الدقيق والمقنع. وهو ما سيسعى بعض النقاد والبلاغيين الآخرين إلى
تجاوزه، من خلال استثمار المباحث النفسية لفلاسفة الإسلام لدراسة تلك الظاهرة
وتحديد طبيعة قواها الإدراكية وإبراز مراتبها الذهنية ووظائفها النفسية .
4- التفسير الفلسفي لقضية الإبداع الشعري عند العرب:
سبق
القول إن الفلاسفة المسلمين قدموا مقاربة نفسية للعملية الخيالية، فأبرزوا قيمة
الخيال ودوره الفاعل في الحياة الإنسانية، كما كشفوا طبيعة علاقته وحدودها بغيره
من القوة الذهنية والملكات النفسية الأخرى. وبالرغم من أهمية مباحثهم في هذا
المجال، إلا أنهم لم يربطوا ماقالوه عن القوى الخيالية للنفس -وغيرها من ملكات
الإدراك الذهني- بعملية الإبداع الفني، فكانت تلك أكبر ثغرة تصم تصوراتهم وأبحاثهم.
ويعتبر
حازما القرطاجني، من أبرز النقاد الذين أدركوا ذلك وسعوا إلى تحقيقه، خاصة وأنه
أفاد من جهود الفلاسفة المسلمين، واستوعب ما أمكنه الاستيعاب مباحثهم ومؤلفاتهم،
فضلا عن إحاطته بالتصورات والمنجزات النظرية والمنهجية والتطبيقية للبلاغيين
والنقاد العرب السابقين.
وتندرج
عناية القرطاجني بدراسة قوى الإبداع الشعري في سياق معاينته الحركة الذهنية للتخييل
النفسي بغاية ضبط خصائصها الإدراكية ووظائفها النفسية التي تميزها عن النشاط
الذهني لقوى الإدراك النفسي العادي؛ لأن فهم الجوهر التخييلي للشعر، والإحاطة
بقوانينه الإبداعية، وعناصره الجمالية ـ بصورة كلية وعميقة ـ يقتضي الوعي - أساسا
وأولا - بالاختلافات الإدراكية بين الخيال المبدع والخيال العادي، وتحديد خصوصية
الوعي الخيالي، وإبراز الفرق بينه وبين الأوعاء الذهنية الأخرى كالإدراك والتذكر
وغيرها؛ كما يتطلب أيضا رصد طرق تفاعل مدارك الشاعر مع العالم الخارجي وبيان
كيفيات انتقال المواضيع المادية من سياقاتها الحسية إلى المجال الذهني، ومستويات تشكلها
النفسي والشاعري لتصير في الأخير صورة شعرية ذات بنية لغوية مخيِّلية.
ومما لاشك فيه أن
طموحا مثل ذلك ليس أمرا سهلا، خاصة وأنه لا يروم تحديد السمات الإبداعية الكبرى
لحركية التخييل الشعري فحسب. ولكنه يطمح إلى أبعد من ذلك؛ إذ ينشذ النفاذ إلى باطن النفس الشاعرة، لرصد الحركة الإبداعية
لقواها الخيالية، ومتابعة مختلف مراحل تشكل الصور التخييلية فيها. وهذا أمر لم
يسبق أن خاض غماره – كما سبق القول - أي أحد من النقاد والبلاغيين العرب، بل وحتى
الفلاسفة المسلمين لصعوبة مرامه، وتوعر سبل التوصل إليه.
بيد أن مقاربة القرطاجني
للطبيعة الإبداعية للتخييل الشعري لا تنحصر في البحث في القوى النفسية والملكات
الخيالية التي يستند عليها الشاعر في تشكيل رؤاه الجمالية فقط. بل إنه يتناول أيضا
العوامل الأخرى الفاعلة في عملية التخيُّل الشعري والمؤثرة فيه، والتي ترفدها
بطاقات تعبيرية وإمكانات إبداعية عديدة وغنية. وتكمن خصوصية تلك العوامل في أنها
ذات مصدر خارجي؛ إذ إن أصلها هو العالم المادي والتجارب الموضوعية. وتتمثل في
الظواهر الإدراكية والحالات الشعورية والعاطفية التي يحياها الشاعر وتترسخ في
ذاكرته. كما تتمثل أيضا في المعارف والمعلومات التي يتلقاها، وفي طرائق التعبير
التي يكتسبها.
والعمليـة
التخييلية التي يشكلها الشاعر هي نتـاج
تفاعل كل هـذه العـوامل وتـرابطها. فكما أنه لا يمكن تصور صورة شعرية بدون
قوى الخيال الذهني، كذلك لا يمكن الحصول عليها بمعزل عن محيط واقعي وعن سلوك
كلامي. ولذلك فسواء بدأنا بالجانب الأول أو الثاني أو الثالث فليس ذلك بالأمـر
الهام ما دام لكل واحد من هذه الجـوانب والعوامل أثـره الفعال ودوره المميـز في
العملية التخييلية كمـا تدل على ذلك العبـارات التي استهل بها القرطاجني حديثه عـن
كل واحدمنها لكن ومع ذلك فالمنطق يقتضي البداية
بالحديث عن الشروط المادية التي تؤثر في التكوين الإبداعي للخيال وتجعل من صاحبه شاعرا أو موسيقيا أو رساما أو
قاصا. خاصة وأن حازما يشير إلى ما يوحي أنه يعي الأثر الفعال للبيئة في
عملية الإبداع الفني. وذلك في قوله: «(…) فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة،
ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على
مصابرة الخواطر في إعمال الرؤية الثقة بما يرجوه من تلقاء الدولة، ولا في رقة
أسلوب النسيب من لم تشط به عن أحبابه رحلة ولا شاهد موقف فرقة»[30].
ويرى حازم القرطاجني
أن العوامل البيئية التي تؤثر في تكوين شخصية الشاعر تنحصر في ثلاثة عوامل بدونها
لا يستطيع أن يصوغ قولا شعريا جميلا حتى ولو امتلك خيالا مجنحا ومتقدا. يقول محددا
تلك العوامل: « لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول
ثلاثة أشياء، وهي المهيئات والأدوات والبواعث، وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين:
1-النشء في
بقعة معتدلة الهواء، حسنة الوضع، طيبة المطاعم، أنيقة المناظر، ممتعة من كل ما
للأغراض الإنسانية به علقة.
2-والترعرع بين
الفصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان (…)
وكانت الأدوات تنقسم إلى العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم
المتعلقة بالمعاني.
وكانت البواعث
تنقسم إلى أطراب وإلى آمال، وكان كثير من الأطراب إنما يعتري أهل الرحل بالحنين
إلى ما عهدوه ومن فارقوه، والآمال إنما تعلّق بخدام الدول النافعة وجب ألا تكمل
تلك المهيآت للشاعر إلا بطيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدول ومعاهدة التنقل
والرحلة»[31].
فالقرطاجني يحدد
هنا الشروط الموضوعية والعوامل الطبيعية والثقافية التي تؤثر في النفس الشاعرة
وتفجر طاقاتها الإبداعية منذ بداية تشكلها وخلال لحظات تطورها ونضجها. وما يقوله
هنا ليس أمرا جديدا في الثقافة العربية؛ فقد سبق للرعيل الأول من الشعراء والنقاد
العرب أن وعوا قيمة هذه العوامل وأدركوا أثرها الفعال في صقل الموهبة الشعرية، وفي
إثارة الذات الشاعرة ودفعها إلى صياغة رؤاها الجمالية وانفعالاتها العاطفية في
تجربة شعرية مؤثرة. هذا ما نتبينه في نصوص عديدة أوردها الجاحظ وابن قتيبة وابن
رشيق وغيرهم[32].
وخلافا لما ذهب
إليه لطفي اليوسفي لا تنحصر أهمية العمل الذي قام به حازم هنا فقط في أنه
استقصى تلك النصوص وتمثل التصورات النظرية التي تنطوي عليها، فأعاد صياغتها بطريقة
مكثفة وشاملة «فتعرض إلى عوامل نشأة الشاعرية ونموها واستعرض طرائق رفدها.»[33].
بل تكمن بالأحرى في أنه أوردها في سياق تحديده للعوامل التي تؤثر في الحركة
الذهنية للخيال وفي نشاطه الإبداعي سواء في لحظات بداية تشكله، أم في مراحل تطوره
ونموه.
يفيد تأمل النص أعلاه في استنتاج أن تلك العوامل تنقسم في
العمق إلى قسمين رئيسين:
فالقسم الأول يضم
المعارف والأدوات التعبيرية التي يكتسبها الشاعر بالنشوء بين فصحاء الأمة وبلاغييها،
أو بتعلم طرق تأليف الكلام ومقتضيات البراعة فيه. وتندرج في هذا القسم الجهة
الثانية من المهيئات والأدوات، وتبرز فاعليته في أنه يمكن خيال الشاعر الناشئ من
التمييز بين مستويات التعبير اللغوي، ومن الوعي بالخصائص الأسلوبية والتركيبية
للقول البديع. ولذلك فلما ترتسم فيه صور المعاني وطرق التعبير الجمالي عنها يقوم
بتركيب ومحاكاة بعضها ببعض، لينتج كلاما شبيها بها. ولعل حازما قصد شيئا من
هذا القبيل، خاصة أن ابن سينا الذي تشبع بأفكاره وتصوراته كثيرا سبق أن أكد
غير مرة في رسائله النفسية أن الحركة الذهنية والغريزية للمخيِّلة تتميز بمحاكاة
الأشياء الواردة عليها بما يشبهها ويناسبها أو يخالفها[34].
أما القسم الثاني
فيتعلق بالنشوء في أرض معتدلة الهواء وساحرة الطبيعة وخصبة الثمار، ثم بمداومة
السفر والتجول في الفضاءات الطبيعية الساكنة والممتعة. ويبدو أن هذا الشرط الذي
يضعه حازم غريب بعض الشيء؛ لأنه يروم أن يقيد حركية الخيال الشاعري ضمن
حدود جغرافية ضيقة. في حين أن الشاعر قد ينشأ في صحراء قاحلة وأرض موحشة ومقفرة.
وقد تتفتق طاقته الشاعرية، فيهتدي إلى صياغة أشعار بديعة في تلك الأمكنة من غير أن
يغادر أحبته ويبتعد عنهم. وهذا ما يشهد به الشعر العربي القديم ذاته. ولعل حازما
وعى الإشكال الذي طرحه قوله السابق، فاستدرك قائلا: «وقد تكون النشأة حسنة على غير هذا النحو،
وذلك بأن تستجد الأهوية للناشئ وترتاد له مواقع المزن ومواضع الكلإ والنبات الغض،
ولا يخيم به في الموضع إلا ريثما يصوّح كلأه ويغيض ماؤه، فإن الطباع الناشئة أيضا
على هذه الحال، وإن لم تكن في الأقاليم المعتدلة، جارية مجرى تلك في سداد الخاطر
والتنبه لما يحسن في هيآت الألفاظ المؤلفة والمعاني وما لا يحسن. وعلى هـذه الحـال
الثـانية كـان نشء شعـراء العـرب، وبذلك تهـدوا من تشقيق الكلام وتحسين هيآته
اللفظية والمعنوية إلى ما تهدوا»[35].
وسواء بالنسبة
لهذه الحال أم للحال السالفة، فإن ما يروم حازم أن يؤكده بالقول إن النشوء في
الفضاءات الطبيعية الخصبة والساحرة، ومعاهدة التنقل والرحلة يؤثران في النفس
الشاعرة، وفي قدراتها الإبداعية هو أن الوعي الخيالي بالعالم يقتضي التحرر من
المعيقات الحسية والتخلص من صخب العلاقات الاجتماعية؛ لأنها تعكر صفاء النفس وتشوش
على خاطر الشاعر وهواجسه وتعوق رؤاه
الخيالية عن الوصول إلى المعاني المضمرة للوجود، وعن الفطنة إلى جهات تماثل
الظواهر الإدراكية المتباينة في الحس، وإلى وجوه تناغمها وتشابهها.
والشاعر حين ينعزل
عن الآخرين ويلجأ إلى الرباع المخلية، والرياض المعشبة، فإنه يروم بذلك أن يقبض
على مستوى إدراكي وشعوري منفلت منه، مستوى تذوب فيه موسيقى روحه بإيقاعات الطبيعة،
وتتمازج داخله خواطره الذهنية بجمالها الآسر، وتنفتح فيه مخيلته على تشكلات أخرى
للعالم والأشياء.
ويرى حازم أن نشوء
الإنسان في بيئة بتلك المواصفات الطبيعية والثقافية لا يصنع منه شاعرا؛ إذ لابد أن
تتحصل لديه ثلاث قوى إبداعية وهي: القوة الحافظة، والقوة المائزة، والقوة الصانعة.
يقول محددا الخصائص الإدراكية لهذه القوى ووظائفها الإبداعية: «فأما القوة
الحافظة فهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة، ممتازا بعضها عن بعض، محفوظا كلها في
نصابه. فإذا أراد مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك وجد خياله
اللائق به قد أَهَّبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حـد ما
وقعت عليه في الوجود؛ فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها (…) والقوة المائزة هي التي بها يميز الإنسان ما
يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم ذلك ، وما يصح مما لا يصح.
والقوى الصانعة هي
القوى التي تتولى العمل في ضم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية
والمذاهب الأسلوبية إلى بعض والتدرج من بعضها إلى بعض؛ وبالجملة التي تتولى جميع
ما تلتئم به كليات هذه الصناعة»[36].
ومعنى ذلك أن
القوة الحافظة هي خزانة ذهنية لكل المعطيات المادية واللغوية والصور الحسية التي
يدركها الإنسان، ويستشف من خصائصها الإدراكية أنها هي الذاكرة، وأن وظيفتها
الإدراكية تكمن في أنها تخدم القوى الإبداعية للنفس؛ حيث تحضر للخيال صور المواضيع
المادية الغائبة عن الحس ومعانيها المتناسبة التي تتطلبها اللحظة الإبداعية. وتترك
له وللقوى الصانعة أمر تشكيلها بالأسلوب الإيحائي الملائم للغرض الشعري.
ويرى حازم أن درجة
الشاعرية ومستواها الإبداعي يتحددان بحسب استجابة الحافظة لأوامر الخيال
ومتطلباته؛ فالشاعر الذي تورد ذاكرته على قواه الإبداعية الصور الذهنية للعلاقات
المادية بين الأشياء الأكثر مناسبة لغرضه الشعري والأدق تعبيرا عن معناه الجمالي
يكون منتظم الخيالات مثله في ذلك مثل «الناظم التي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة
محفوظة المواضع عنده. فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي
يعلم أنه فيه فأخذه منه ونظمه»[37].
أما الشاعر الذي تورد ذاكرته على قواه الإبداعية أشياء بعيدة عن الصورة الشعرية
والمعنى الجمالي اللذين قصد التعبير عنهما، فإن ذلك يدل على أنه معتكر الخيالات
ومضطربها، شأنه في ذلك شأن «ناظم تكون جواهره مختلطة، فإذا أراد حجرا على صفة ما
تعب في تفتيشه، وربما لم يقع على البغية، فنظم في الموضع غير ما يليق به»[38].
وتكمن أهمية هذا
التمييز في أنه يفسر سبب إلحاح حازم وغيره من النقاد السابقين على اعتبار الفضاءات
الطبيعية الساكنة والساحرة شرطا رئيسا لإثارة قوى الشاعرية؛ إذ أن خروج الشعراء
العرب إلى تلك الأمكنة كان يروم تخليص الحركة الذهنية للخيال مما يعكر صفوها،
ويشوش عملية بحثها عن المعنى المراد. وقد سبق أن تبينا أن جودة تلك الحركة واتقاد
نشاطها الإبداعي يزداد قوة «بالسكون، ويختل مع حضور المحسوسات». كما تكمن أيضا
أهمية ذلك التمييز في أنه يتقاطع مع تصور الحاتمي السابق الذي ميز فيه بين
التخيل الفاسد والتخيل الحسن على أساس القيمة الجمالية والمستوى البياني لصور كل
واحد منهما ومعانيه.
والدلالة العميقة
لما يقوله حازم في النص السابق هو أن الذاكرة أو الحافظة عنصر أساس في
العملية الإبداعية، لأن بدونها يستحيل أن يوجد أي تخييل شعري «غير أنها ليست هي
العامل الأول والأخير في عملية الخلق الشعري، فثمة عوامل متعددة تتداخل في
العملية، ويتفاعل كل منها مع الآخر»[39].
ومن أبرز تلك العوامل طريقة اشتغال الحركة الذهنية للقوى المائزة والصانعة.
فالقوة المائزة
تتولى تصنيف المعطيات الإدراكية والتعبيرية التي توردها الذاكرة على الخيال،
فتقتبس منها تلك الأكثر موافقة للغرض التخييلي والبنية اللغوية والدلالية للخطاب
الشعري. ويسمي حازم هذه القوة أيضا بالملاحظة. وذلك لأن تمييزها بين الصور
الذهنية والمعاني النفسية الواردة على الخيال الشاعري يقترن بملاحظة وجوه التناسب
بينها.
أما القوى الصانعة
فتقوم بتشكيل الجزئيات اللفظية والدلالية والإيحائية التي أوردتها الحافظة على
الخيال وميزت بينها القوة المائزة. فتصوغ من ذلك عملا شعريا منتظم البنيات
التركيبية والأسلوبية، وجميل الصور الفنية.
إن القيمة النظرية
لما يشير إليه حازم هنا لا تكمن في تصنيفه لقوى الشاعرية إلى ثلاث قوى
رئيسة سيفصلها فيما بعد، ولا في تحديده للخصائص الإدراكية والوظيفية لكل واحدة
منها. بل تكمن أساسا في وعيه بالطبيعة الحركية للخيال الشاعري، والتي يحددها في عنصري
التجزيء والتركيب؛ حيث إن الخيال يفصل المدركات المادية عن سياقاتها الواقعية
وعلاقاتها الطبيعية المحدودة والثابتة، ويعيد نظمها وتأليفها ضمن بنيات علائقية
جديدة، فيبتكر بذلك أشياء غير ماثلة في الواقع العيني، أو يفطن إلى جهات تناسب
الظواهر المادية المتنافرة في الحس ونواحي تشابهها التي لا يتهدى إليها الإدراك
المباشر لها.[40]
ويتضح هذا الوعي بالجوهر الحركي للإدراك الخيالي لدى حازم في قوله: «إذا
كانت صور الأشياء قد ارتسمت في الخيال على حسب ما وقعت عليه في الوجود وكانت للنفس
قوة على معرفة ما تماثل منها وما تناسب وما تخالف وما تضاد، وبالجملة ما انتسب
منها إلى الآخر نسبة ذاتية أو عرضية ثابتة أو منتقلة أمكنها أن تركب من انتساب
بعضها إلى بعض تركيبات على حد القضايا الواقعة في الوجود التي تقدم بها الحس
والمشاهدة، وبالجملة الإدراك من أي طريق كان أو التي لم تقع لكن النفس تتصور
وقوعها لكون انتساب بعض أجزاء المعنى المؤلف على هذا الحد إلى بعض قبولا في العقل
ممكنا عنده وجوده، وأن تنشئ على ذلك صورا شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض»[41].
وما يقوله حازم في
هذا النص هام جدا؛ لأنه يبين أنه استلهم مباحث الفلاسفة المسلمين في النفس
وتصوراتهم للخصائص الإدراكية لقواها الذهنية، فسعى إلى تطبيقها على عملية الإبداع
الشعـري، وإلى وصلها بمقـولات النقاد العـرب الأوائـل بخصوص الطاقـات النفسيـة
للإبـداع الشعـري. وذلك بالصـورة التي يـراها مناسبا لخصوصية الوعي الإدراكي
لعملية التخيل الشعري. ولهذا فهو يقول: « وهذه القوى التي هي الحافظة والمميزة
والملاحظة والصانعة وما جرى مجراها، في احتياج الشاعر أن تكون موجودة في طبعه (…)
هي المعبَّر عنها بالطبع الجيد في هذه الصناعة»[42].
ويبدو أن عبارة
«وما جرى مجراها» الواردة عقب تحديده لقوى الإبداع الشعري تدل على أنه استشعر أن
حصره لتلك القوى في ثلاثة فقط يتنافى مع الطبيعة الحركية للملكة الإبداعية، ولا
يحيط بجوهرها النفسي ونشاطها الإدراكي. ولا يبرز بالتالي بالوضوح اللازم معنى
الطبع وطبيعة قواه الفكرية وخصائصه الإبداعية. ولعل هذا ما يفسر لماذا عاد في سياق
لاحق من كتابه إلى بيان معناه، وتحديد قواه الذهنية وملكاته الشاعرية [43].
ويرى حازم أن تلك
القوى تنحصر في عشر؛ أولها: القوة على إدراك عناصر التشابه ونقط التناسب بين
الظواهر الإدراكية المتباعدة في الحس. وثانيها: القوة على تمثل الأغراض والمواضيع
الرئيسة في الخطاب الشعري، والدلالات الفنية المتعلقة بكل واحد منها، والغايات
الجمالية التي تستهدفها. وثالثها: القوة على تصور بنية شكلية للقصيدة تتناسب فيها
طريقة تراتب معانيها مع تسلسل أغراضها وترابط فصولها. ورابعها: القوة على تخيل
المعاني الشعرية البديعة، والإحاطة بطرق اجتلابها والوصول إليها. وخامسها: القوة
على الاهتداء إلى جهات التناسب بين تلك المعاني وعلى إيقاع التناغم بين مضامينها.
وسادسها: القوة على ابتداع البنيات اللغوية والأساليب التركيبية الأكثر ملاءمة
لتلك المعاني والأجمل تعبيرا عنها. وسابعها: القوة على نظم تلك العبارات في بنية
أسلوبية متوازنة ومتناغمة في أزمنة النطق بها. وثامنها: القوة على ربط أفكار
القصيدة بطريقة متسلسلة ومتناسبة. وتاسعها: القوة على خلق وحدة عضوية بين البنيات
الدلالية واللغوية والأسلوبية للقصيدة، بحيث لا يستشعر قارئها أو متلقيها أي خلل
في نظمها وتأليف عناصرها. وعاشرها: القوة على التمييز بين الكلمات والعبارات، وعلى
تفضيل إحداهما على الأخرى بحسب دقة إيحائها بالمعنى وقوة ملاءمتها للسياق والغرض
التخييليين[44].
إن أول ملاحظة
ينبغي تسجيلها هي أن حازما لا يتحدث هنا ـ كما ذهب إلى ذلك جابر عصفور ـ عن درجات
الإبداع الفني ومراحل تكونه، ونوع الملكة التي تتحكم في كل درجة ومرحلة على حدة[45].
وإنما يتحدث عن الطاقات الفطرية المركوزة في نفس الشاعر التي تعكس مدى استعداده
الذهني وتهيؤه النفسي لقول الشعر وللبراعة فيه. ولئن كان يحصرها في عشر قوى، فإنه
يروم بذلك أن يفسر مقولة الطبع التي سادت بين النقاد العرب قبله. وذلك بتحديد
الخصائص الغريزية التي يجب توافرها في الإدراك الشاعري للعالم، وفي طرائق التعبير
عنه، والتي تسبق ـ زمنيا ومنطقيا ـ التحقق الفعلي لعملية التخيل الشعري.
وبالرغم من تجزيئه
لقوى الطبع إلى عشر قوى، إلا أن ذلك لا يعني أنه يفصل بينها، أو يخل بوحدة العملية
التخييلية وبتداخل عناصرها وترابطها، بل الأمر عكس ذلك تماما؛ لأن طريقة ترتيبه
لتلك القوى وتحديده لوظائفها الإبداعية تشي بتعقد العملية الإبداعية، وتبين أن كل
واحدة منها ترتبط بالأخريات وتكمل عملها التشكيلي. ويبدو أنه آثر أن يقسمها إلى
عشر حركات ذهنية وقوى نفسية، ليس حبا في التقسيم أو التجزيء، ولكن ليدرك التفاصيل
الدقيقة والخفية لعملية تكون القدرة النفسية على الإبداع والتخيل الشعري. والتي لا
يمكن الوعي بفعاليتها لو اقتصر على النظر إلى تلك العملية بصورة كلية وشمولية.
وتبرز قيمة تلك
القوى وأهميتها الإبداعية في أنها تمثل مقياسا لتحديد درجة شاعرية الشاعر ومرتبته
في سلم الإبداعية. فالشعراء الذين تتوافر في طبعهم تلك القوى على الكمال «هم
الذين يقوون على تصور كليات المقولات ومقاصدها ومعانيها بالقوة قبل حصولها
بالفعل، فيتأتى لهم بذلك تمكن القوافي وحسن صور القصائد وجودة بناء بعضها على
بعض»[46].
أما الشعراء الذين اكتسبوا بعضا منها فقط، فيكونون أقل شاعرية من أصحاب المرتبة
السابقة، ودونهم في تخيل المعاني الشعرية، وفي إحكام تأليف بنيات القصيدة ونظمها[47].
فأما أولئك الذين لم تتوفر فيهم تلك القوى فهم الذين يحملون صفة الشاعرية زورا
وبهتانا «وهم شر العالم نفوسا وأسقطهم همما»[48].
ويرى إحسان عباس
أن «من يقرأ هذا التقسيم يتذكر ما قاله ابن طباطبا حول نظم القصيدة، غير أن ابن
طباطبا كان يتحدث عن الخطوات العملية، بينما حول حازم هذه الخطوات إلى
"قوى" قائمة في طبيعة الشاعر.»[49].
وليس معنى ذلك أن حازما اقتصر على تحديد الطاقات النفسية والقوى الذهنية التي تدل على الاستعداد الغريزي لقول الشعر.
فقد تأمل أيضا النشاط التخيلي للشاعر، وحاول رصد حركيته الذهنية والإبداعية،
فانتهى إلى أنها "تنحصر" في ثمانية أحوال تخيلية، أربعة منها كلية
ومثلها جزئية، يقول بهذا الصدد:
«إن للمخيلين
في التخييلات التي يحتاجون إليها في صناعتهم أحوالا ثمانية: لكل واحدة منها في
زمان مزاولة النظم مرتبة لا تتعداها.
الحال الأولى:
يتخيل فيها الشاعر مقاصد غرضه الكلية التي يريد إيرادها في نظمه أو إيراد أكثرها
(…)
الحال
الثانية: أن يتخيل لتلك المقاصد طريقة وأسلوبا أو أساليب متجانسة أو متخالفة ينحو
بالمعاني نحوها ويستمر بها على مهايعها (…)
الحال الثالثة:
أن يتخيل ترتيب المعاني في تلك الأساليب (…)
الحال الرابعة:
أن يتخيل تشكل تلك المعاني وقيامها في الخاطر في عبارات تليق بها(…) فهذه أربع
أحوال في التخاييل الكلية.
والحال
الخامسة، وهي أول حال من التخاييل الجزئية: أن يشرع الشاعر في تخيُّل المعاني معنى
معنى بحسب غرض الشعر.
الحال
السادسة: أن يتخيل ما يكون زينة للمعنى وتكميلا له، وذلك يكون بتخيُّل أمور ترجع
إلى المعنى من جهة حسن الوضع والاقترانات والنِّسب الواقعة بين بعض أجزاء المعنى
وبعض، وبأشياء خارجة عنه مما يقترن به ويكون عونا له على تحصيل المعنى المقصود به.
الحال السابعة:
أن يتخيل، لما يريد أن يضمنه في كل مقدار من الوزن الذي قصد، عبارة توافق نقل
الحركات والسكنات فيها ما يجب في ذلك الوزن في العدد والترتيب بعد أن يخيِّل في
تلك العبارات ما يكون محسنا لموقعها من النفوس.
الحال الثامنة:
أن يتخيل في الموضع الذي تقصر فيه عبارة المعنى عن الاستيلاء على جملة المقدار
المقفى، معنى يليق أن يكون ملحقا بذلك المعنى، وتكون عبارة المعنى الملحق طبقا لسد
الثلمة التي لم يكن لعبارة الملحق به وفاء بها (…)»[50].
ويتمثل الفرق بين
هذا النص والنص السابق في أن حازما يروم في الأول تحديد طرق تخلق القدرة الغريزية
على التخيل الشعري. أما هنا فإنه يروم تحديد الأحوال الذهنية التي تتشكل خلالها
عملية التخيل الشعري. وذلك بحسب لحظات تواردها على النفس، ودرجات تراتبها في زمان
الإبداع الشعري. وقد يختلف الباحث الحديث مع حازم في تصوره أن عملية النظم تتم في
مراحل منفصلة، بدعوى أن حركة الخيال الشاعري لا تنقسم إلى مستويات ولحظات مجزأة
ينفصل بعضها عن بعض، بل تتم في لحظة واحدة لا سبيل إلى الفصل بين أفكارها
ومكوناتها أو إلى معرفة التمثلات الذهنية والجمالية سبقت الأخرى في عملية التخيل
الشعري[51].
لكن لا يجب نسيان أن حازما كان صاحب مشروع نظري كبير وطموح يروم أن يحيط بكلية
العملية الشعرية وبخصائصها الجمالية ومستوياتها الإبداعية الجوهرية والرئيسة. وأنه
كان يعي ـ كما سبقت الإشارة ـ أن إنجاز هذا الأمر لا يمكن أن يتم بصورة دقيقة
ومضبوطة بالاقتصار على النظر في تلك العملية في بعدها الكلي والشمولي. بل لابد أن
يوازي ذلك إلمام بالجزئيات والتفاصيل الصغيرة والفاعلة فيها، والتي قد لا تبرز
قيمتها الفنية ووظيفتها الإبداعية بالرؤية العامة والكلية.
وإضافة إلى ذلك لا
يجب إغفال أمر هام وهو أن الزمن الذي يتحدث عنه حازم هنا ليس هو الزمن
الكرونومتري الذي ينظم الحياة العادية للإنسان ويتحكم فيها. بل هو زمن وهمي
متخيل[52].
وهو زمن يختلف عن الزمن الآخر بوحدات قياسه الخاصة، وبحركيته المميزة في تصنيف
المعطيات وترتيبها. وبأنه متعدد الأبعاد ومتنوع درجات التحقق، وهو لا يختلف من
شاعر إلى آخر فحسب، بل من تجربة شعرية إلى أخرى بالنسبة للشاعر الواحد.
والحالات الثمانية
التي يعرضها حازم في النص السابق ليست إلا تدقيقا لإحدى لحظات التخيل
الشعري الرئيسة؛ حيث إنه سيقسم ـ في نص لاحق ـ النشاط الخيالي للشاعر إلى أربع
لحظات تخيلية لكل واحدة منها زمنها الخاص بها. يقول في نص هام: « للشاعر المروي
(…) أربعة مواطن للبحث: 1- موطن قبل الشروع في النظم، 2- وموطن في حال الشروع، 3-
وموطن عند الفراغ، يبحث فيه عما هو راجع إلى النظم، 4- وموطن بعد ذلك متراخ عن
زمان القول يبحث فيه عن معان خارجة عما وقع في النظم لتكمل بها المعاني الواقعة في
النظم وتستوفي بها أركان الأغراض ويكمل التئام المقاصد»[53].
تدل كلمة المروي
التي يوصف بها الشاعر في هذا النص على النشاط الفكري والذهني الذي يعتمل في نفسه.
وتشير بالتالي إلى لحظة أو لحظات اندماجه في عملية التخيل الشعري، وإلى بدايات
تشكيله لتجربته الإبداعية. وتختلف هذه البدايات واللحظات عن بعضها البعض حسب حيزها
الزمني ووظيفتها الإدراكية والإبداعية في إنتاج النص الشعري. فالموطن الأول يشمل
مختلف اللحظات التي تسبق شروع الشاعر في صياغة تجربته الجمالية الجديدة
و"الآنية"، ولئن كان هذا الموطن يسبق منطقيا وزمنيا بداية شروعه الفعلي
في عملية التخيل الشعري، ويتعلق بالعوامل النفسية والذهنية التي يستعد بها الشاعر
لذلك، فإن مداه الزمني يتضمن الأنشطة الإدراكية والإبداعية التي عاشها الشاعر من
قبل، وترسخت في ذاكرته الجمالية أو لا وعيه الخيالي بلغة معاصرة.
أما الموطن الثاني
فيخص لحظة البداية الفعلية للإبداع الفني. وتتميز هذه اللحظة أساسا بتخلص الشاعر
من سلطة الواقع المادي، وبانفلاته من الوعي العادي والسطحي بالأشياء والظواهر،
واندماجه في لحظة نفسية وشعورية مغايرة للمألوف. وتتجلى أهمية هذه اللحظة في أنها
تمكنه من الإحساس بالعالم بصورة مختلفة، ومن رؤية أشياء غريبة وقول كلام مغاير
للكلام المألوف. ويلاحظ أن حازما لم يقيد هذه اللحظة بحيز زمني مضبوط،
لأنها تتوالى في الزمن وتتجدد باستمرار إلى حين اكتمال التجربة التخيلية، ولأن
فترتها تتفاوت من شاعر إلى آخر، ومن تجربة إبداعية إلى أخرى بالنسبة للشاعر
الواحد.
أما الموطن الثالث
فيتعلق بعملية تأمل الإنتاج الشعري عقب الانتهاء منه مباشرة. ويبدو أن هذه اللحظة
محدودة زمنيا، وهي تشبه المراجعة الأولية للنص الشعري. وتعقبها لحظة المراجعة
الشاملة والعميقة له، وهي التي رتبها حازم في الموطن الرابع والأخير. وتكمن
خصوصية هذا الموطن في أنه يمتد في زمن الإبداع. ويتيح للشاعر فرصة إثراء القيمة
الجمالية والمحتوى التخييلي لنصه الشعري بإبدال كلمة بأخرى أنسب منها، أو بتغيير تركيب
عبارة بآخر أجمل منه.
ويرى حازم أن لكل
موطن من هذه المواطن الأربعة قوة ذهنية خاصة بها:
«فأما
الموطن الأول فالغناء فيه لقوة التخيل.
والموطن
الثاني الغناء فيه للقوة الناظمة، ويعينها حفظ اللغة وحسن التصرف.
والموطن
الثالث الغناء فيه للقوة الملاحظة كل نحو من الأنحاء التي يمكن أن يتغير الكلام
إليها، ويعينها حفظ اللغة أيضا وجودة التصرف والبصيرة بطرق اعتبار بعض الألفاظ
والمعاني من بعض.
والموطن
الرابع الغناء فيه للقوة المستقصية الملتفتة، ويعينها حفظ المعاني والتواريخ وضروب
المعارف»[54].
ومعنى ذلك أن
المواطن الأربعة السابقة تندرج كلها ضمن النشاط التخيلي الذي يتمخض عنه النص
الشعري، وذلك بالرغم من تفاوت الحيز الزمني لكل واحد منها واختلاف وظائفها
الإبداعية. ويبرز ذلك من طبيعة القوى التي ترتبط بها تلك المواطن، والتي تشير إلى
مختلف الملكات الذهنية والفكرية التي يعتمد عليها الشاعر في عمليته الإبداعية كما
اتضح سابقا. بيد أن حازما يرى أن النشاط التخيلي للشاعر لا ينحصر في إطار هذه
المواطن الأربعة فقط، بل يشمل لحظة أخرى هامة يتحول فيها الشاعر من سياق إبداع
النص إلى سياق تأمله وتلقيه، يقول بهذا الصدد: « وبعد استقصاء وجوه المباحث في
هذه المواطن الأربعة وكمال انتظام القصيدة المرواة، قد يعرضها الناظم على نفسه،
فيظهر له بعرضها أمور كانت قد خفيت عنه من إلحاقات وإبدالات وتغييرات وحذف. وقد
يعرض للشاعر موضع يرى أنه خليق بالتغيير أو الزيادة فيتعذر عليه ما يليق بالموضع
من التغيير أو الزيادة فيرجئ النظر فيه إلى وقت آخر. وقد يعاود النظر في ذلك
المرار الكثيرة فلا يتيسر له ما يريد إلا بعد معاودات كثيرة (…)»[55].
وما يشير إليه
حازم هنا يعني أن عملية التخيل الشعري لا تنفصل في أساسها الإبداعي عن مستوى
التلقي التخييلي للنص الشعري؛ فالشاعر بعد أن "يكمل" تشكيل عمله الجمالي
يبتعد عنه، فيخلق مسافة زمنية ونفسية (شعورية) بينه وبين ذلك العمل، ويحاول أن
ينظر إليه ويتأمله بوعي خيالي من مستوى مغاير للوعي الخيالي الذي مكنه من إبداعه؛
أي أنه يفصل عن أناه التخيلية "أنا" تخيلية أخرى تقيِّم من زاوية التلقي
التخييلي للنص بنيته اللغوية وخصائصه الفنية، فيبحث بذلك عن الوسائل التي تجعل نصه
يصل إلى "الغاية القصوى من الإبداع"[56].
وتكمن قيمة هذه العملية في أنه يستحضر على ضوئها المتلقين ـ المقصودين أو
المفترضين ـ لعمله الشعري، فيجعل من نفسه نموذجا لاختبار مدى نجاحه في إثارة
نفوسهم وتحريكها.
ومعنى ذلك أن بحث
حازم في قوى الخيال الشاعري وفي الخصائص الحركية لأنشطتها الذهنية والإبداعية لا
ينفصل لديه ـ بالرغم من لغته التجريدية وتقسيماته المنطقية ـ عن رؤيته الجمالية
للجانب التخييلي للشعر. فتحديده للعوامل الطبيعية والنفسية التي تؤثر في تكوين قوى
الإبداع الفني، وفي طبيعة نشاطها الإيحائي، وتقسيمه تلك القوى إلى ثلاثة رئيسة،
واعتباره أن لكل واحدة منها نشاطها الذهني الخاص بها الذي يختلف على مستوى الوظيفة
الإبداعية والرتبة الزمنية في العملية التخيلية عن القوى الأخرى، كل هذا وذاك
يندرج عنده في سياق البحث عن الشروط الإدراكية والحالات النفسية التي تمكن الشاعر
من صياغة نص تخييلي قمين بنيل إعجاب المتلقين وبالتأثير في نفوسهم وعلى أفكارهم.
ولا نتفق هنا مع
من يرى أن فهم حازم لعملية التخيل الشعري كان محدودا، ولم يلامس الجوانب الوجدانية
من الحياة النفسية للشاعر التي تؤثر في تلك العملية، وأن المتلقي ظل هو مدار
اهتمامه، وأنه لما حاول دراسة فاعلية التخيل عند الشاعر المبدع خرج بتصور يحول
العملية التخيلية إلى أجزاء منفصلة، وتمثلات ذهنية متوالية بشكل آلي[57].
لا نتفق مع ذلك لأن العملية الشعرية في تصوره، وقبل أن تكون نتاجا لقوى ذهنية
ومؤثرات بيئية وثقافية، هي تعبير جمالي عن تفاعل الشاعر الخاص مع العالم الخارجي
وانفعاله المختلف بالأشياء والأحداث التي تقع أمامه. وما لم يحصل أولا انفعاله
الخاص والمختلف بظواهر العالم المادي ووقائعه. فلن يكون لتلك القوى والمؤثـرات أي
غنى أو قيمة إبداعية. ويتضح هذا التصور من قوله: «اعلم أن خير الشعر ما صدر عن فكر ولع
بالفن والغرض الذي القول فيه، مرتاح للجهة والمنحى الذي وجه إليه كلامه
لإقباله بكليته على ما يقوله وتوفير نشاط الخاطر وحدته بالانصباب معه في شعبه والميل
معه حيث مال به هواه (…)»[58].
فالأساس الأول
الذي تتميز به عملية التخيل الشعري وترقى به إلى أعلى درجات الجمالية هو أن يكـون
الباعث على قول الشعر نابعا من أعماق النفس الشاعرة ووليـد دافع غريزي ووجداني.
وما يقوله حازم هنا مستمد من وصية أبي تمام للبحتري، وخاصة المقطع الذي
ينصحه فيه قائلا: « (…) اجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن
الشهوة نعم المعين»[59].
ولئن كان هذا الأمر يروم إبراز القيمة الجمالية للتجربة الشعرية الصادقة والمسكونة
بمغامرة البحث عن الأشعار التخييلية البديعة والساحرة، فإنه يندرج أيضا في سياق
تأكيد فاعلية هذا النوع من الأشعار، باعتبارها تتضمن طاقة تخيلية غنية، وتمتلك
قدرة تأثيرية قوية.
لقد استطاع حازم
القرطاجني أن يقدم مساهمة نظرية ومنهجية دقيقة وعميقة في مقاربة قضية الإبداع
الشعري، تجاوز بها تصورات النقاد والبلاغيين العرب السابقين، وتحرر فيها من سلطة
المفاهيم والتقسيمات المنطقية والفلسفية التي وسمت الأبحاث النفسية لأرسطو
والفلاسفة المسلمين.
ذلك أنه لم يكتف
بوصف الظواهر النفسية والحالات الوجدانية التي تعتور الشاعر أثناء عملية الإبداع
الشعري أو قبله، كما لم يجتر المصطلحات المحدودة وغير الدقيقة التي حاول البلاغيون
والفلاسفة أيضا وصف العملية الشعرية بها، بل صاغ تصورا يحيط بمختلف العوامل
النفسية والاجتماعية والطبيعية واللغوية التي تحيط بذات الشاعر وتؤثر فيه، فتابع
تولد الشاعرية لدى الشاعر منذ أن يكون صبيا إلى أن يتحول إلى راو للشعر ثم شاعرا،
ووصف الحالات واللحظات والأزمنة التي تؤثر في القصيدة، وهو في هذا وذاك أنتج جهازا
مفهوميا خاصا به يتلاءم مع طبيعة الظاهرة المدروسة، فلا يسقط عليها مصطلحات لا
تناسبها، ولا يفرض عليها توصيفا لا تتحمله، بحيث لم يوظف المصطلحات النفسية لدى
أرسطو وشراحه، كما لم يقتصر على مصطلحات الرعيل الأول من اللغويين والمتأدبين
والنقاد، فكانت مقاربته – بحق – دقيقة وعميقة وفريدة.
خاتمة:
تبين مما سبق أن
التفكير في قضية الإبداع الشعري والانشغال بقضاياها النظرية وإشكالاتها الجمالية
اتسم عند العرب بتعدد المقاربات واختلافها، إذ بدأ التفكير فيها أولا بطريقة
خرافية، لكن سرعانما قطع العرب مع ذلك التفكير واتجهوا للبحث في الذات الشاعرة
ومعاينة الحركات الذهنية والأنشطة الإدراكية التي تعبر بها عن رؤاها الجمالية
وطرائق تفاعلها مع العالم والأشياء والذوات الأخرى.
وإذا كان العرب قد
انتجوا في البداية جهازا مفهوميا وتصورا نظريا منسجما مع طبيعة ثقافتهم البيانية،
فسرعانما ارتقوا بتلك التصورات إلى درجة عليا من النظر والتفسير، وذلك حين اطعلوا
على آراء أرسطو في كتابه : في النفس الذي يقسم فيه قوى الإدراك الذهني، ويصف طرائق
اشتغالها والعوامل المادية والنفسية المؤثرة في حركاتها.
وقد تبينا أن
إدراكهم لقيمة تلك التصورات جعلهم يلاحظون أن صاحبها أغفل توظيفها واستثمارها في
مجال تفسير العملية الإبداعية، فسعوا إلى القيام بذلك لسد الثغرة التي تعانيها
شعريته، وهو ما دفعهم إلى قراءتها وتوظيفها بما يجيب عن أسئلتهم المؤرقة، ويحل
مشاكلهم النظرية والمنهجية الخاصة، مما أدى في النهاية إلى صياغة نظرية نقدية في
الإبداع الشعري لدى حازم القرطاجني ذات بعد تأصيلي، لأن هذا الأخير لم يتبع حرفيا
مصطلحات أرسطو وتقسيماته، بل استوعبها واستوعب التصورات التي تنطوي عليها، فنحث
مصطلحات أخرى مغايرة وصاغ تصورات وتفسيرات مغايرة تجيب عن واقع حال الشعرية
العربية المتسمة بالغنائية، وتقدم من ثمة نموذجا لطبيعة التفاعل وحدوده بين
الشعريتين العربية واليونانية ولاسيما الأرسطية منها، ومثالا لما ينبغي أن يكون
عليه الحوار بين الذات والآخر ...
الهوامش:
[1] د.عباس أرحيلة: مسألة التأثير
الأرسطي لدى مؤرخي النقد والبلاغة العربيين، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1،
1999.
[3] أنظر د.عبد الرحمن بدوي: بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ
الرئيس، ضمن ابن سينا: الشفاء، المنطق، 9- الشعر، تح: د.عبد الرحمن بوي، ص5. د. إبراهيم
حمادة: المدخل إلى كتاب " فن الشعر" ،ضمن أرسطو: فن الشعر، تر: د.
إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت. ص 3-4.
[6]
د. جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند
العرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 1992،ص 21. أنظر أيضا: د. جوده
نصر: الخيال مفهوماته ووظائفه،سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
القاهرة،1984، ص 148.
[10] الشريف الرضى: تلخيص البيان في
مجازات القرآن، تح: محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1955، ص194.
[11] د. إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن
الثاني حتى القرن الثامن الهجري، دار الشروق،
عمان، ط1، 1993، ص 23.
[13]
د. إحسان عباس : تاريخ النقد الأدبي عند العرب
نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الثامن الهجري، دار الشروق،عمان،ط1،
1993،ص20.
[14]
الجاحظ: الحيوان، تح وشرح: عبد السلام هارون،
المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت، ط3، 1969، 1/131.
[15]علي بن عبد العزيزالجرجاني:
الوساطة بين المتنبي وخصومه، تح وشرح:
محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، دار القلم، بيروت، 1966، ص 15-16.
[16] ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط4، 1972، 1/204-206.
[19] ابن سينا: عيون
الحكمة، تح:عبد الرحمن بدوي،وكالة المطبوعات،الكويت،دار القلم،بيروت،ط2،1970، ص
39.
[20] ابن رشد: تلخيص كتاب النفس،تح: د.أحمد فؤاد
الأهواني، مكتبة النهضة المصرية،القاهرة، ط1، 1950.، ص 64.
[21] الكندي: رسالة في
ماهية النوم والرؤيا، ضمن رسائل الكندي الفلسفية،تح: محمد عبد الهادي أبي ريدة،
دار الفكر العربي، القاهرة، 1950، 1/295،
1/299.
[25] أبو الحسن حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم
وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3 ، 1986، ص 199.
[26] د. إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى
القرن الثامن الهجري، دار الشروق، عمان، ط1، 1993، ص 102.
[27] د. محمد لطفي اليوسفي: الشعر والشعرية الشعر والشعرية،الفلاسفة
والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه،الدار العربية للكتاب، 1992، ، ص 26.
[30]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 42.
[31]
نفسه، ص 40 – 42.
[32] أنظر الجاحظ: الحيوان، مذكور، 6/250، ابن
رشيق: العمدة، مذكور، 1/206-207.
[33]
د. محمد لطفي اليوسفي: الشعر والشعرية، مذكور، ص 301.
[34]
ابن سينا:أحوال النفس، رسالة في النفس وبقائها ومعادها، تح:د.أحمد فؤاد
الأهواني،دار إحياء الكتب العربية،القاهرة، ط1،1952ص 177.
[35]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور ، ص 41.
[36]
نفسه، ص 42 – 43.
[37]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 43.
[38]
نفسه.
[39] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، مذكور ، ص
89.
[40]
انظر بهذا الخصوص د. جابر عصفور: الصورة الفنية، مذكور ، ص 60.
[41]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور ، ص 38 – 39.
[42]
نفسه ، ص 43.
[43]
نفسه، ص 199.
[44]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 200 –201.
[45]
د. جابر عصفور: الصورة الفنية، مذكور، ص 63.
[46]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 201.
[47]
نفسه، ص 202.
[48]
نفسه.
[49]
د. إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي، مذكور، ص 567.
[50]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 109 – 110.
[51]
انظر د. جابر عصفور: الصورة الفنية، مذكور، ص 63 – 64، جودة نصر: الخيال،
مذكور، ص 191، 193.
[52]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 206.
[53]
نفسه، ص 200– 201.
[54]
حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور، ص 214.
[55] نفسه، ص 215.
[56]
نفسه، ص 15.
[57] د. عصام قصبجي: نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم، دراسة
تطبيقية في شعر أبي تمام وابن الرومي والمتنبي، دار القلم العربي للطباعة والنشر،
ط1، 1980، ص 219. د. جابر عصفور: الصورة الفنية، مذكور، ص 382.
[58] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مذكور،
ص 341.
[59] نفسه،
ص 203.
لائحة المصادر والمراجع
1-
عباس أرحيلة: مسألة التأثير الأرسطي لدى مؤرخي النقد والبلاغة العربيين،
المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 1999.
2-
الأصمعي: فحولة الشعراء، تح: تشارلس توري، دار الكتاب الجديد، بيروت،
ط2، 1980.
3-
د.يوسف الإدريسي:
التخييل والشعر، منشورات مقاربات، المغرب، ط1، 2008، ص 109-112.
4-
د.عبد الرحمن بدوي: بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ
الرئيس، ضمن ابن سينا: الشفاء، المنطق، 9- الشعر، تح: د.عبد الرحمن بدوي.
5-
الجاحظ: الحيوان، تح
وشرح: عبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت، ط3، 1969.
6-
علي بن عبد العزيز الجرجاني:
الوساطة بين المتنبي وخصومه، تح وشرح:
محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، دار القلم، بيروت، 1966.
7-
د.
إبراهيم حمادة: المدخل إلى كتاب " فن الشعر" ،ضمن أرسطو: فن الشعر، تر:
د. إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت.
8-
الشريف الرضى: تلخيص
البيان في مجازات القرآن، تح: محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية،
القاهرة، 1955.
9-
ابن سينا: أحوال
النفس، رسالة في النفس وبقائها ومعادها، تح: د.أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء
الكتب العربية، القاهرة، ط1،1952 .
10-
ابن سينا: عيون
الحكمة، تح: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت، ط2، 1970.
11-
د. إحسان عباس: تاريخ
النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري، دار
الشروق، عمان، ط1، 1993.
12-
د. جابر عصفور:
الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي،
بيروت، ط3، 1992.
13-
الفارابي: مقالة في
قوانين صناعة الشعراء، تح: عبد الرحمن
بدوي، ضمن أرسطو طاليس، فن الشعر،
دار الثقافة، بيروت، ط2، 1973.
14-
د. سهير القلماوي: فن الأدب، (1) المحاكاة، دار
الثقافة، القاهرة، ط2، د.ت .
15-
د. عصام قصبجي: نظرية
المحاكاة في النقد العربي القديم، دراسة تطبيقية في شعر أبي تمام وابن الرومي
والمتنبي، دار القلم العربي للطباعة والنشر، ط1، 1980.
16-
أبو الحسن حازم القرطاجني
: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب
الإسلامي، بيروت، ط 3 ، 1986.
17-
الكندي: رسالة في
ماهية النوم والرؤيا، ضمن رسائل الكندي الفلسفية، تح: محمد عبد الهادي أبي ريدة،
دار الفكر العربي، القاهرة، 1950.
18-
ابن رشد: تلخيص كتاب
النفس، تح: د.أحمد فؤاد الأهواني، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1 ،1950.
19-
ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط4، 1972.
20-
د. جوده نصر: الخيال
مفهوماته ووظائفه،سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1984
.
21-
أبو الفرج محمد بن
النديم: الفهرست، تح: رضا-تجدد، د.ت.
22-
د. محمد لطفي اليوسفي: الشعر والشعرية الشعر والشعرية، الفلاسفة
والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه، الدار العربية للكتاب، 1992.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق