الثلاثاء، 7 أبريل 2015

جرح الذاكرة ... وشعرية البوح

جرح الذاكرة ... وشعرية البوح  
في رواية: خيط الرشق للدكتورة مهى عبد القادر مبيضين


 د. يوسف الإدريسي (المغرب)

 [مقال نشر ضمن مجلة أفكار، الأردن، ع 272، 2011]



إضــــاءة :
صدر للدكتورة مهى عبد القادر مبيضين رواية تحت عنوان: خيط الرشق، في طبعتها الثانية عن دار ورد الأردنية  سنة 2010، وهي رواية تقع في 139 صفحة من القطع المتوسط، وتدور أحداثها بين فلسطين والأردن، جاعلة من مأساة طرد الفلسطينيين من أرضهم وتقتيلهم اليومي الممنهج موضوعا لها. وبالنظر إلى قيمة العمل وأهميته الفنية والتاريخية نقدم القراءة الآتية .

على سبيل التمهيد:
لم تكن سنة 1948 بداية المأساة الحقيقية للشعب الفلسطيني، ومن خلاله كل الأمة العربية، كما لم تكن مقدمة للنكبة أو لانتقام التاريخ من قوم تنكروا لما صنع منهم أمة مجيدة، بل كانت مجرد نتيجة لأحداث جسام ولمؤامرات خارجية -وداخلية أيضا- أخدت تحاك ضدهم منذ بدايات القرن العشرين، إن لم يكن قبل ذلك التاريخ. ولذلك فالقارئ في طبيعة الصراع حول فلسطين وبسببها لا يمكنه أن يجلي حقيقته وخباياه إذا وقف فقط عند وعد بلفور -السيء الذكر- وما تلاه من وعود وتكالبات معلنة وغير معلنة أيضا، بل عليه أن يعود قبل ذلك بكثير ليدرك ما كان يحاك للعرب عامة والفلسطينيين خاصة والذي بدأت تنكشف خيوطه قبل عام 1948.
والحديث عن ما قبل 1948 وعن الخيوط التي أخذت تحاك منذئد يشكل أساسا من الأسس التي انبنى عليها العالم السردي في رواية: خيط الرشق، ولذلك فليس اعتباطا أن يشكل الخيط -بمختلف أشكاله وتلويناته وترميزاته- أساس الحكي ومدارا لأحداث ووقائع كثيرة، وأن يتكرر ذكر بعض أنواعه أكثر من مرة في الرواية: خيط الرشق، وخيط الاثليكون، وخيط العنكبوت، وخيط الحرف، وخيط الكلمة... وليس مصادفة كذلك أن تختار الروائية من بين هاته الخيوط – وكثير غيرها- خيط الرشق لتسمية عملها به، مع ما يحمله العنوان من دلالات وإيحاءات، كما سنرى لاحقا؛ كما أنه ليس اعتباطيا أن تصرح شخوص الروايـة عبر مراحل ومحطات مختلفة من الحكي وفي مقدمتها بطلها عبد القادر بأن ما حدث لفسلطين وللفلسطينييـن يعـود إلى « قبل عام 1948» (ص 52) ، وأن المقاومة بدأت تشتعـل وتتأجج « يوما فيوم قبل 1948.» (ص 64)[1] .
ليس معنى ذلك فحسب أن الإطار الذي ينتظم فيه الحكي في الرواية ويوجه شخوصها وأبطالها ويحرك حواراتهم هو ماحدث قبل سنة 1948 وبعدها من هجمات سعت إلى فصل الفلسطيني عن ذاته وقطع صلاته بتاريخه وتراثه وجغرافية أرضه، وذلك بغاية فرض واقع آخر جديد، بل يعني أيضا أن استدعاء السارد للذاكرة وتوسله بها– والتي يلاحظ أنها تكاد تتكرر في كل صفحات الرواية كمصطلح ذهني أو كنشاط إدراكي للنفس يستعيد أحداث الماضي "الأليم" – إنما هو وسيلة للتعبير عن موقف يعلن تمسكه بكل ما يرمز إلى الأرض السليبة، ويسجل رفضه لكل المحاولات اليائسة لاجتثات الذات من جذورها ومحو الذاكرة... وهو ما نستشفه من العنوان، وكثير من عتبات الرواية.   
  
1-  شعرية  عتبات: خيط الرشق

 مثلما للبيوت أبوابها المستقلة والفريدة التي تظل موصدة على كل راغب في ولوجها ما لم تفتح له فيمر عبر عتباتها، كذلك للنصوص عتباتها الخاصة التي تظل متمنعة على قرائها مستعصية على فهمهم لها دون المرور ضرورة عبر عتباتها وإدراكهم لدلالاتها وإيحاءاتها.   
والعتبات النصية هي مجموع البنيات اللغوية والأيقونية التي تتقدم المتون وتعقبها –وقد ترافقها أيضا أحيانا كثيرة- لتنتج خطابات واصفة لها تُعَرِّف بمضامينها وأنواعها « ومن أبرز مشمولاتها: اسم المؤلف، والعنوان، والأيقونة، ودار النشر، والإهداء، والمقتبسة، والمقدمة... وهي بحكم موقعها الاستهلالي- الموازي للنص والملازم لمتنه تحكمها بنيات ووظائف مغايرة له تركيبيا وأسلوبيا ومتفاعلة معه دلاليا وإيحائيا، فتلوح بمعناه دون أن تفصح عنه، وتظل مرتبطة به ارتباطا وثيقا على الرغم من التباعد الظاهري الذي قد يبدو بينهما أحيانا.»[2]
وقد تميزت رواية: خيط الرشق، من بين ما تميزت به، بشعرية عتباتها ودقة تناسقها وترابطها. ويلاحظ المتابع لها أن الروائية د. مهى مبيضين لم تكتف بالتحكم في صياغتها على مستوى المتن النصي فحسب، بل إنها تدخلت –استنادا إلى حسها الفني البديع وذوقها الجمالي الرائق- في تشكيل بعضها وإخراجه، وهو ما نستشفه من الغلاف الذي حرصت بنفسها على اختياره وتصميمه كما تخبرنا بذلك صفحة الجنيريك (ص2).
ولئن كان ذلك يعني أن كل عتبات الرواية –بما فيها الأيقونة- من وضع المؤلفة واختيارها، وليست من وضع الناشر كما هو معمول به في كثير من مؤسسات الطبع والنشر، فإنه يؤكد قولنا السابق بتمتعها بحسن فني عال، ويشي –في الوقت نفسه- بأن حرصها على إيصال رسالتها وحسن إبلاغها جعلها تكثف عناصر خطية وأيقونة وتقنية متعددة وتصوغها بصورة تجمع بين دقة الإيحاء وعمق التكثيف، ما دامت العتبات ليس من غاياتها الإفصاح عن النص والإفشاء بكل دلالاته ومعانيه، ولكنها دورها محصور في التلميح إلى عالمه فقط، وهي بذلك تتعمد إغراء القارئ واستدراجه للدخول في عالمها السردي حتى يدركه في كليته الدلالية وعمقه التخييلي.
ويبدو من خلال متابعة بنيات العتبات وطرائق تشكيلها وتلوينها أن دة.مهى مبيضين قد نجحت فعلا في بلورة عتبات إيحائية ومغرية بقراءة عملها، لأن عنوان الرواية وصورة الغلاف –باعتبارهما واجهة العمل- تثيران لدى القارئ رغبة ملحة في معرفة أية علاقة تربط بينهما، وتدفعانه –من ثمة- إلى الرغبة في الانتقال من أن يكون مجرد قارئ للعنوان إلى قارئ للمتن، وهو ما لا يتم دون امتلاك نسخة منه.
يتكون عنوان الرواية من مكونين لفظيين مترابطين، أحدهما تابع للآخر ومتصل به، وهما: "خيط" و "الرشق"، وقد جاء هذان المكونان بصيغة الإضافة، فالثاني مضاف للأول، وهي صيغة بقدر ما تعني الترابط والتداخل، تشير إلى قيمة رمزية للثاني مقارنة بالأول، فالخيط قد يكون خيط رشق أو غير ذلك، لكن الرشق لايمكنه أن يكون إلا خيطا من نوع رفيع وبقيمة جمالية فريدة، فهو خيط تستعمله النساء في فلسطين في تطريز الأثواب، وصناعة ألبسة نسائية ومنزلية ذات حسن وبهاء عاليين ولا مثيل لهما.
والقارئ للرواية يلاحظ أن عبارة "خيط الرشق" تكررت على امتداد جل صفحاتها، وإن كانت هيمتنه على دوال الرواية تفسر سبب تسميتها به، فإن مما يؤكد ذلك الاختيار ويجعله ضروريا رمزية هذا النوع من الخيوط الذي يشير إلى الهوية الفلسطينية، ويعتبر أحد أبرز العناوين الدالة عليها، فخيط الرشق عمل تقليدي تختص به النساء الفلسطينيات، وهو وإن كان جزءا من التراث الفلسطيني، فإنه أضحى –بقيمته الرمزية ودلالاته الجمالية والثقافية- وسيلة لمقاومة كل محاولات اجتثات الشعب والأرض والقضاء على كل مايرمز إلى تاريخ الفلسطينيين وتراثهم وثقافتهم، وأداة للتعبير عن الحضارة الفلسطينية المنتجة للجمال والبهاء.
ولذلك فاختيار الروائية لتسمية عملها بهذا العنوان نابع أساسا من رغبة ملحة في إعلان أن الهوية الفلسطينية كانت –وستظل- قائمة مادامت هناك نساء يزركشن بخيط الرشق أثوابا بديعة وساحرة، وليس غريبا والأمر كذلك أن تكون أم بطل الرواية عبد القادر –مع ما للتسمية من دلالة ترتبط بأب الروائية- امرأة « ماهرة حاذقة تعرف كيف تشكل من الخيط عملا فنيا ترتديه فتيات كفرعانة، تصنع من خيط الرشق ثوبا مطرزا كأنه نسج سحري تتلألأ ألوانه كأشعة الشمس.» (ص 23)، بل إن أم البطل ستتحول إلى معلمة لكل النسوة تلقنهن ثقافة "خيط الرشق" وأسرار صناعته إيمانا منها بأنه أحد أبرز عنوانات التراث الفلسطيني، وأن التمسك به بمثابة تشبت بالهوية والذاكرة المجيدة لشعب مجيد، يقول البطل:  « أخذت النسوة يتوافدن ليتعلمن من والدتي سر الخيط وسحره وسر الرشق، ويتعلمن مقدرتها العالية وبراعتها في العمل بصبر وصمت ودراية خبير...» (ص 58)
 ولا تقف جمالية العنوان وقيمته الرمزية عند هذا الحد، بل تصل إلى أبعد من ذلك حين يصور السارد أن مأساة الشعب الفلسطيني تتلخص في الصراع بين "خيوط" متعددة ومتناقضة من حيث الطبيعة والوظيفة، مع ما لكلمة خيوط من دلالات وإيحاءات، ولذلك فهو يصور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بكونه صراعا بين خيط يصوغ الجمال وهو خيط الرشق، وآخر يصر على تحويل حب الحياة والتمسك بالتاريخ والجغرافيا وكل الرموز التراثية الدالة على عمق الاحساس الوطني بالانتماء إلى فلسطين إلى مجرد وهم أو خيط من خيوط العنكبوت، وبين خيط العنكبوت المروج للوهم، وخيط الرشق المرسخ للإيمان، والمؤجج للإصرار على الحق في العودة إلى الوطن المسلوب، يبزغ خيط جديد يتوسط بين الحقيقة والوهم ألا وهو خيط الإثيكون الذي لا يعدو أن يكون وسيلة للانتصار للحق في الحياة والعيش الكريم...وأداة تقاوم البشاعة والحقد والتقتيل الجماعي لشعب لا ذنب له إلا أنّه آمن بحق إنساني طبيعي وسعى بإصرار إلى تجسيده في الواقع ...   
وإذا كان السارد سيضع هاته الخيوط الثلاثة الرئيسة في الرواية بصورة متناقضة، معتبرا أن خيط الرشق وخيط الإثيكون يقابلان خيط العنكبوت، فإنه سيبرز أن خيط الإثيكون قد تولد من تشكلات خيط الرشق وإيحاءاته الفنية (ص58)، وسيعده الجواب الحقيقي والفعلي على كل الإصرار الهمجي على القضاء على خيط الرشق واستبداله بخيط العنكبوت، ذلك أنه سيكتشف أن كل خيط يحمل معنى خاصا وغير بريء، وسيختار -من ثمة- لنفسه خيطا مغايرا في شكله، لكنه متناغم مع خيط أمه، وهو خيط سيستعمله في المستشفى الذي سيؤسس، وسيوظفه ليرتق به جروح المقاومين وضحايا الاعتداءات الصهيونية التي لا تنتهي، ملتقيا بذلك مع أمه في منح الفرح والسعادة لشعب يصر المغتصبون على تحويل حياته إلى شقاء وجروح قاتلة، يقول البطل عبد القادر معبرا عن ذلك: «(...) وهذه اللحظة، تذكرته فيما بعد جليا واضحا عندما وقعت في العقد السابق من حياتي عقد خيط لَمِّ الجراح ورتق الممزقين وصمت الجراحين؛ لأكون الوكيل لخيط (الإثيكون) خيط العمليت الجراحية في الشرق الأوسط. فلما نظرت إلى هذا الخيط اجتاحتني رغبة التذكر لخيط الرشق وأمي، وكم كانت ستبدع علاوة على ما أبدعت لو أن الخيط، خيط الرشق والتطريز بأنواعه، كان ميسرا لها. لكني –وبفضل الله- حققت ذلك من حياكة من تلونت أجسامهم بالجراح، ووفرته لكل الممزقين من شعبي، فألبستهم ثوب الرتق عوضا عن ثوب الرشق، وهم بذلك سعداء فرحين، أنا ووالدتي نملك سر الخيط، وسر فرح الآخرين لحظة خروجهم مبتسمين، للبس ثوب يوم فرح او عيد، أو فرحين لخروجهم من عملية جراحية ناجحة، يحوكها خيط الإثيكون.» (ص 58-59)
وإذا كان عنوان الرواية يحمل في طياته كل هاته الدلالات التي ترمز إلى الصراع بين الرغبة في البقاء (خطي الرشق وخيط الإثيكون) والإصرار الهمجي على الاجتثات (خيط العنكبوت)، فإن صورة الغلاف –باعتبارها عنوانا بصريا آخر للرواية[3]- تتناغم مع هذا المعنى وتنتجه، ونلاحظ فيها رجلا لا يبدو منه إلا نصفه العلوي، يحمل على كتفيه صبيا ويتجه به نحو جهة معينة، وتوحي عمامته وملامح وجهه ووجه ابنه بأنه عربي، كما أن محياه يشير إلى تعب كبير وحزن غائر يسكنه، وهو ما يجعله غارقا في تأمل عميق في الذات والمصير. ويبدو أن حالة الرجل قد انعكست على نفسية الصبي، الذي قد يكون ابنه، وهو ما يلاحظ من ملامح وجهه الذي ارتسمت عليها نظرات كئيبة دالة على خيفة وتوجس من أمر ما، فغابت عنها نظرات البراءة والانشراح والحبور التي تطبع وجوه الأطفال في سنه...
إن اختيار هاته الصورة بهاته الإيحاءات لم يكن اعتباطيا، بل كان محكوما برغبة ملحة لدى د. مهى مبيضين في توجيه رسالة دقيقة تحمل معنى واحدا، ألا وهو التعبير عن التشريد الدائم والضياع الأبدي الذي يعيشها الفلسطينيون فوق أرضهم أو في المخيمات والشتات، وهو معنى سعت إلى تأكيده والإلحاح عليه في عنوان الرواية ومتنها أيضا، ولذلك فحين نقرأ عملها نلاحظ أن بعض العناصر الدلالية والإيحائية التي تحويها الصورة تجد ما يتناغم معها في نصها الذي يشير غير مرة إلى رحلة العذاب... والتهجير الجماعي لشعب من أرضه ليحل فيها أقوام جاءوا من أقاصي البلدان وهجروا أوطانهم الحقيقية ليستوطنوا أرضا غير أرضهم، يقول البطل عبد القادر في هذا المعنى: « وبدأ اليهود يبنون المستعمرات، وينطلق أهل كفرعانة مهجرين مبعدين، ويضيع صراخي الطفولي بين أوجاع الآخرين وصراخهم، لندخل في عام جديد، ورحلة جديدة، نتفيأ مساقط الظل أينما حل وارتحل.» (ص 77) ، ويقول أيضا معبرا عما سعت صورة الغلاف إلى إبرازه وتأكيده: « فالكل يجتاحه الضياع والكل خائف، لا يعرف إلى أين!! جلسنا في ذاك المكان يومين، ثم رحلنا إلى "عابود" في قضاء "رام الله" في رحلة طويلة نمشي فيها سيرا على الأقدام، يسقط من يسقط، ويبقى من يقوى على المسير في رحلة العراء الأبدية، أصبح شعبنا بأكمله، كما قال أحد شعرائنا، عائلة مشاة.» (ص 79) 
ولئن كانت العبارة الأخيرة تكاد تكون عنوانا لصورة الغلاف، فإن القارئ للرواية يلاحظ بوضوح كيف أبدعت د. مهى مبيضين في حسن اختيار عنوان بصري ملائم لعملها ومتناغم مع عنوانه الخطي، بل ومكمل له، لأن عنوان الرواية يشير ضمنا إلى علاقة الأم بالبطل (خيط الرشق في علاقته بخيط الإثيكون)، بينما تكشف بوضوح صورة الغلاف عن علاقة البطل بأبيه، وبين العلاقتين معا: عبد القادر وأمه؛ وعبد القادر وأبيه يغدو الصراع قائما بين الألم الذي يسببه الآخر للذات، وإصرار هاته الأخيرة على التشبت بخيط الأمل ... وحب الحياة
ولعل ذلك ما جعل الروائية تحرص على تكرار عناصر دلالية وإيحائية بعينها تكثف معنى عملها وترسخه في الأذهان، وفي هذا الإطار يلاحظ أن التناغم بين العتبات والرواية لا يقتصر على العنوان والصورة، بل يمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، فقد حرصت -بذكاء فنى لامع- على إنهاء روايتها بما بدأتها به، فكانت "غزة" الخيط الناظم بين البداية والنهاية، إذ أهدت روايتها « ...إلى طفل في غزة، لم يسعفه الوقت لكتابة روايته.» (ص5)، وختمتها بفقرة عنونتها بـ«غزة» (ص139)، وهي فقرة دالة، وتحمل موقفا واضحا وأمنية راسخة بـ «أن يزول أولئك الأوغاد الذين يصممون على فتح جراحنا عبثا وغطرسة في كل زمان......» (ص139)
ولا يتوقف التناغم الذي يسم عتبات الرواية ومقاطعها عند هذا الحد، بل يشمل أيضا الصفحة الخلفيّة للغلاف –وهي عتبة أخرى وليست أخيرة من عتبات النص[4]-، بحيث ضمت العنوان البصري للرواية، أو صورة الغلاف، ومقطاع متفرقة من الرواية تمت صياغتها بأسلوب منسجم ومتناغم. وحين نتأمل ذلك نلاحظ أن الروائية تعمّدت تغييب عنوان الرواية، وجعلت صورة غلافها تقوم مقامه، وحرصت في معرض ذلك على الحفاظ على الترابط النصي والتعالق الإيحائي بين مكنونات عملها، فجاء المقطع الذي اختارته ملخصا للفكرة الأساس لعملها التي سبق أن أشرنا إليها، والقائمة على الترميز للصراع بين الفلسطيني والصهيوني بالصراع بين خيط الرشق وخيط الإثيكون من جهة، وكل الخيوط الأخرى بما فيها خيط العنكبوت من جهة أخرى.
ولا تتوقف قيمة هاته العتبة وأهميتها الدلالية والإيحائية عند هذا الحد، بل تكمن أيضا في كون المقطع المختار يبتدئ بما ينتهي به ألا وهو عبارة: "خيط الرشق" التي تمثل عنوان الرواية. الأمر الذي يتناغم مع استهلالها وخاتمتها، ويعلن في الأخير الإصرار على الانتصار للحق والجمال...والذاكرة الفلسطينية ...
وعلاوة على جمالية العتبات وحسن ترابطها وتناغم عناصرها ومكوناتها، تتحقق شعرية الرواية أيضا من خلال أسلوب صياغة عباراتها وتكثيف أفكارها، وهو ما نلمسه من حضور أسلوب الشذرة فيها.

2- الشذرات وجمالية التكثيف في الرواية :
اتسمت لغة رواية: "خيط الرشق" بتوظيف أسلوب يمزج بين الوضوح والمباشرة من جهة، والإيحاء والترميز من جهة ثانية.
فهو أسلوب واضح ومباشرة إلى حد يجعله أقرب إلى الواقعية، ويوظف في وصف طبيعة القضية التي يتناولها السارد وتصوير مدى عمق جروحها ومآسيها، وكأنه بذلك يتعمّد تسمية البشاعة بكلماتها القبيحة وفضح المجرمين بالآثار الدموية المتبقية على أجسادهم ووجوههم جراء اغتيالهم الحقيقة... واغتصابهم الأحلام الطبيعية في الحياة والحب...
وهو أسلوب مكثف يعتمد الرمز والإيحاء، ويستعمله السارد في المواقف واللحظات التي يصل فيها القهر والاضطهاد درجة غير قابلة للفهم والتعبير والتصوير، فتند البشاعة عن التسمية ولا تجد سبيلا لفضحها غير الكلمات المكثفة للمعنى المختزلة له. وقد بلغت الرواية درجة عليا من الجمالية حين كانت تعتمد هذا النوع الأسلوب، وتوظفه في بعض المقاطع فيها، أو في تسمية بعض فصولها.
في هذا الإطار نلاحظ أن الرواية كانت تستهل كل فصل منها بعنوان وتضع لبعض من عناوين فصولها مقتبسات خاصة بها، تلخص المعنى وتبلوره بأسلوب مكثف ينطوي على جمالية فنية وعمق إيحائي وتخييلي، ويسهم –حسب مقتضيات الاقتباس- في توجيه القراءة[5]، ومن النماذج الدالة على ذلك: المسجد منتصف الطريق (الحرية: بحثنا الدائم عن تفاصيل حياتنا اليومية لنمسك بها) (ص 21)، الباب الخشبي (الباب: وشم الخلاء وحاجب الرؤية، المفتاح: تعهد حديدي بامتلاك المكان) (ص 25)، تعبيدات وتحميدات (الاسم: أسر الجسد في الكلمة) (ص 31)، يا تعبنا!  يا شقانا! (النار عدو الحياة، النار بدء المعرفة) (ص 49) ، البارودة التي تقتل صاحبها (قلت له: ما معنى الحرب؟ فقال لي: من أجابك لم يفهم معنى الكلمة، من فهم المعنى صار شهيدا) (ص 61)، المسدس والعقرب (العقرب: جهل الحيوان بالمكان، لسعة العقرب للإنسان إعلان صريح عن رغبتها بالانتحار) (ص 69) ، سر الحرف (قال لي: خيط الحرف شكل الكلمة، وخيط الكلمة شكل الكون كله) (ص 89)، التجلي البائس (الصدق لحظة المصالحة مع الذات والآخر، الكذب: لا تحده الكلمات الصادقة) (ص 99)، رحلة الشوك يا أريحا (المشفى مخيم آخر بلون أبيض) (ص 113)، مهاجرون وأنصار (الخارطة: ورقة على الحائط تفتعل على استيحاء جغرافية المكان) (ص 129)، مساحة المتنفس (الحذاء: هو مساحة الإنسان الحي فوق الأرض، نزع الحذاء استغناء عن الحياة وبحث عن مساحة أكبر على الأرض) (ص 133).
لا تنحصر قيمة هذه العناوين والمقتبسات في كونها تصوغ المعنى وتعبر عن الموقف بعبارة مكثفة ودقيقة ودلالات عميقة فحسب، بل تكمن أيضا في أنها تخرق الطريقة المعتادة للنظر إلى الأشياء والأسماء، فتعيد تأملها ومساءلتها كاشفة جوانب منسية أو غير مدركة في تمظهرها الطبيعي وتحققها الوجودي، ومنبهة عن تفاصيل هامة كنا في غفلة عنها، وهي في إعادة المساءلة والإجابة تجمع بين منهج السؤال الفلسفي وإشراق الرؤى الصوفية وتخييلية اللغة الشعرية فتستعير من كل واحد منها أسلوبه الخاص ومنطلقه المغاير لتعيد تعريف الأشياء والأسماء المعهودة على نحو جديد ومتجددة...
ولئن كانت الرواية قد استثمرت في عناوين فصولها تقنية الشذرات، فقد كانت تروم من خلالها إعادة تركيز ما عبرت عنه من مواقف وآراء وتكثيفه، فكانت بذلك تلك العناوين والمقتبسات خيطا رفيعا ينسج على نحو فني دقيق بينها وبين الفصول، فيعيد صياغة المعنى بلغة التلميح بدل التصريح مكتفيا بالإشارة بدل العبارة.
في هذا الإطار يلاحظ أن مقتبسات الفصول تهيمن عليها دوال بذاتها مثل: الحرية، المفتاح، الجسد، النار، الحرب، الشهيد وغيرها... وهي دوال تطرح مأساة الفلسطيني وتسائل الشروط الذاتية لاستمراره، وتفضح المؤامرات الإقليمية والدولية التي تحاك ضده وضد حقه التاريخي والجغرافي في أرضه، وذلك بخيوط متعددة بعضها معروف ومفضوح وبعضها الآخر مجهول. من ثمة تغدو الحرية حلما يراود شخوصها المضطهدين، ويصبح المفتاح رمزا لهزم صلابة الباب وقهره، بينما يتحول الاسم من كلمة تعين ذاتا فردية إلى وسيلة للقهر والحبس والحد من حرية الحركة والانطلاق، لأننا حين نسمي إنسانا ما باسم محدد نكون بذلك قد حصرناه في ذاك الاسم وحرمناه من التمتع بباقي الصفات والمعاني... ومثلما يكون التحرر من الاسم بحثا عن حرية أكبر، يكون كذلك التخلص من الحذاء إعلانا صريحا عن رغبة أكيدة في البحث عن مساحة أكبر على الأرض، لا تحدها مقاسات الحذاء المضبوطة وخيوطه التي تمنع عن الرجلين حرية التنفس ... واختيار المسير...
إن القارئ لعناوين فصول الرواية ومقتبساتها يلاحظ أنها لم تخرج عن الإطار العام الذي انتظم ضمنه متنها، بحيث ظل سؤال الحرية، ومساءلة الحياة والواقع، وفضح إصرار العدو الغاشم على تشريد الشعب الفلسطيني وتقتيله أبرز المحاور التي دارت حولها تلك العناوين والمقتبسات... وهي في تعبيرها عن ذلك لم تخرج عن الإطار الجمالي العام الذي وسم الرواية ككل، والذي لمسناه في عتباتها ومقاطع من فصولها ألا وهو ترابط مكوناتها النصية وتشاكل برنامجها السردي، بحيث ظل حسن الربط وتناغم الأجزاء وتفاعل العناصر والأقسام هو الخيط الناظم للعمل ككل، الأمر الذي أضفى عليه قيمة جمالية بديعة...وإيحاء تخييليا عميقا...  

على سبيل الختم:
لم يكن "خيط الرشق" مجرد عنوان يسم عمل رواية الدكتورة مهى عبد القادر مبيضين ويعينه، كما لم يكن عبارة ترمز إلى نسج تقليدي للأثواب الفلسطينية فحسب، بل كان أيضا مشروعا يروم بناء عمل فني بأسلوب متجانس وبنيات مترابطة وأقسام وفصول متماسكة.
وإذا كانت الرواية قد وفقت في التعبير عن عمق المأساة الفلسطينية من خلال ترميزها للصراع بين الفلسطينيين والصهاينة بالصراع بين خيط الرشق وخيط الإيثيكون وخيط العنكبوت، فقد تمكنت أيضا من حسن التوليف بين عناصر وأجزاء عملها إلى الحد الذي بدت فيه وكأنها صيغت بخيط رشيق يربط على نحو بديع عتباتها وفصولها وشخوصها وفضاءاتها السردية... فحاولت في معرض هذا وذاك الكتابة بأسلوب يمزج بين الوضوح غير المبتذل، حين يتعلق الأمر بالوصف الواقعي الدقيق لعمق المأساة وفداحة الجرم، والتخييل الفني، حين يتعلق الأمر باسترجاع الذاكرة المجروحة والأحلام المجهضة، والتكثيف والترميز، حين يتعلق الأمر بالمساءلة الفلسفية للذات والمصير أو حين يصل هول الصدمة وفداحة المأساة إلى درجة غير مفهومة... وغير قابلة للتوصيف والتعبير.
تبقى الإشارة في الأخير إلى أن رواية الدكتورة مهى عبد القادر مبيضين: "خيط الرشق" حافلة بالعديد من الإشارات والعناصر التي تستدعي مقاربات عديدة ومختلفة لها، سواء على مستوى الشخصية الذكورية للسارد، أو تسمية شخصوها، أو رمزية أعدادهم وملامحهم ومهنهم، أو طبيعة الفضاءات التي يتحركون فيها... إلى غير ذلك من السمات والعناصر التي تجعلها بحق عملا جديرا بالقراءة... والاحتفاء...


 الهوامش:




[1]  تشير الأرقام  الواردة بين قوسين إلى صفحات النصوص المقتبسة من الرواية.
[2]  يوسف الإدريسي: عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، منشورات مقاربات، ط1، 2008، ص 15.
[3]  نفسه، ص 53-54.
[4]  نفسه، ص83-84.
[5]  نفسه، ص 55-56.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق