السبت، 24 ديسمبر 2016

التواصل التفاعلي عند العرب من بلاغة الفهم إلى بلاغة التخييل



*ملخص المداخلة*
لم يكن النص الشعري في تصور النقاد والبلاغيين العرب مجرد بنيات لغوية ومكونات أسلوبية وتركيبية تنتظم في قالب إيقاعي خاص، بل مثل عندهم أيضا، وأساسا، لحظة تواصلية جمالية تربط بين حركتين ذهنيتين وحالتين نفسيتين متباينتين لدى الشاعر والمتلقي، وتحقق التفاعل بينهما على المستويين العاطفي والتخييلي.
وتشي القراءة الفاحصة للعديد من تصوراتهم وأحكامهم أن وعيهم بالقيمة التواصلية للشعر، والخصوصية التفاعلية بين الذات المبدعة والذات المتلقية ظل حاضرا في تقييمهم له وموجها لمواقفهم منه منذ بدء تشكل شعريتهم وصولا إلى أبرز لحظات نضجها وتطورها، فتميز وعيهم ذاك بداية بهيمنة رؤية بيانية قادها الرعيل الأول من اللغويين والمتأدبين سعت إلى وضع إطار للشعر وعماد له يسيج علاقته بالذات المتلقية والعالم ويحدد أفقه التعبيري وأساسه الإيحائي، عبر حصر التفاعل بين الشاعر والمتلقي في الفهم والإبانة والتبليغ بدل الإثارة والإشارة والبديع، ليتطور ذلك الوعي لاحقا نتيجة ظهور مقاربة مغايرة توسلت بالعلوم الدخيلة في فهم خصوصية القول الشعري وكشف الأنشطة الذهنية والحركات النفسية المتحكمة في بعده التواصلي والموجهة له، وهي المقاربة التي نهلت من الفلسفة واستقت عناصرها وتصوراتها من المباحث النفسية والشعرية والمنطقية لأرسطو أساسا عبر ترجماته وشروحاته.
 ويمثل حازم القرطاجني أحد أهم من استلهم تلك التصورات وأفاد منها، سواء في جانبها البياني الصرف أو بعدها الفلسفي، الأمر الذي مكنه من فهم طبيعة العلاقة بين الذاتين الشاعرة والمتلقية ومقاربتها. ولعل مما يبرز قيمته وتميزه كونه لم ينظر إلى العملية الشعرية في بعدها البلاغي، كما أنه لم يحصرها ضمن علاقاتها البنيوية ومكوناتها الأسلوبية، بل فهمها على نحو أشمل وأعمق، بحيث نظر إليها في غنى أبعادها وتعددها، منطلقا في ذلك من كون التواصل الأولي في العملية الشعرية يتم قبل اكتمال تخلقها بين الشاعر والعالم بمختلف مكوناته وعناصره اللغوية والمادية؛ ومشددا على أن هذا التواصل الأولي شرط أساس لنوع آخر من التواصل، ألا وهو التواصل الخيالي الذي يتحقق ذهنيا بين الشاعر والمتلقي بواسطة الشعر، ويثير الملكات النفسية لكل واحد منهما عبر المكونات اللغوية والإيقاعية للشعر، التي تشتغل باعتبارها وسائل لتحقيق الفعل التخييلي في نفس المتلقي.

وستحاول الورقة المقترحة إبراز قيمة مساهمة القرطاجني في تحديد طبيعة العلاقة التواصلية بين الشاعر والمتلقي في رحاب القصيد، والكشف عن طبيعة الأنساق المعرفية التي توسل بها، والتي مكنته من أن يصوغ مقاربة عميقة ومتقدمة مقارنة بغيره من النقاد والبلاغيين .       














الاثنين، 12 ديسمبر 2016

الترجمة والمثاقفة : عبد الرحمن بدوي أنموذجا





يعتبر عبد الرحمن بدوي أحد أبرز المفكرين العرب المعاصرين الذين أنتجوا مشروعا علميا كبيرا جعل من الترجمة مدخلا لتحقيق المثاقفة بين العرب والغرب، وقد تجسد هذا المشروع في عديد الترجمات الأدبية والفكرية والفلسفية التي نقل فيها أمهات الكتب وكبريات النظريات العالمية سواء في اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية، أو اللغات الحية كالإنجليزية والألمانية والفرنسية، وذاع بفضلها صيته منذ منتصف القرن العشرين في ربوع العالم العربي الإسلامي، بل وحتى العالم الغربي.
ولئن كانت الترجمة قد استغرقت جانبا هاما وكبيرا من نتاجه العلمي والفكري، فقد مثلت عنده أداة لترسيخ تصور في الحياة والثقافة والفكر يؤمن بضرورة مواكبة علوم الآخر والتفاعل معها، معتبرا أنها الوسيلة الوحيدة لأي نهضة علمية وتقدم حضاري. ولذلك فقد ظل يؤكد -في كثيرا مما ترجم من أعمال- أن التقوقع على الذات والانغلاق عليها ورفض التفاعل مع الآخر والتوقف عن مواكبة مستجدات العصر هو آفة الآفات وسبب التخلف الفكري والحضاري، كما كان ينبه على أن الترجمة في ذاتها لا قيمة لها ولا يمكنها أن تسهم في تحقيق الآثار المطلوبة إذا لم تصبح أداة للتفاعل والتثاقف بين الأمم، وإذا ما اقتصرت على نقل نصوص غير ذات قيمة كبيرة، أو أساءت فهمها وشوهت مضامينها ونظرياتها العلمية، مثلما حدث في الترجمات العربية القديمة للفلسفة اليونانية، وكما يحدث في كثير من الترجمات الحديثة للاتجاهات والفلسفات الحديثة، التي اضطر إلى إعادة ترجمتها وكشف حقيقة تصوراتها وأسسها.
ويفيد الاطلاع على منجز المفكر والفيلسوف العربي في العصر الحديث عبد الرحمن بدوي –كما وصفه ذات احتفاء طه حسين- باستنتاج أنه كان حريصا في أعماله الترجمية على اتباع منهج دقيق، يتجاوز الهفوات التي تحول دون الإفادة من تراث الغير وحسن التفاعل معه، عبر اختيار نصوص وأعمال مميزة تفي بتحقيق مسعاه بالتأثير في النفس والوجدان والعقل، وتمكن من تغيير نظرتها للعالم والأشياء والطبيعة والسياسة والثقافة. ولذلك حرص منذ بواكير نشأته وتفتق شخصيته العلمية على وضع خطة تأليفية تسير في ثلاثة اتجاهات: الأول عرض الفكر الأوروبي الحديث على القارئ العربي؛ والثاني إعادة ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني القديم وتحقيق نصوصه في التراث العربي الإسلامي؛ والثالث الجمع بين الاتجاهين السابقين عبر نوع آخر من الكتابة تستثمر الترجمة وتوظفها لكن في كتابات مبتكرة وخاصة.