الثلاثاء، 7 أبريل 2015

الخطاب المقدماتي عند العرب قــــراءة فـــي مقدمة الكتــــاب لعباس أرحيلــــــــــة


د. مولاي يوسف الإدريسي



يندرج كتاب: مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع ضمن مشروع علمي هام وكبير استهله الأستاذ: الدكتور عباس أرحيلة بكتاب: البحوث الإعجازية والنقد الأدبي إلى نهاية القرن الهجري الرابع، وأعقبه بكتاب: الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، ثم كتاب: مسألة التأثير الأرسطي لدى المؤرخين المحدثين فضلا عن العديد من المقالات التي دأب على نشرها في المجلات والدوريات العربية منذ ما يزيد على عشرين سنة.


ويطمح هذا المشروع العلمي إلى استقراء العلوم العربية الإسلامية، وتتبع مختلف التحولات النظرية والمنهجية التي طرأت عليها عبر سيرورتها التاريخية والمعرفية، ومن ثمة، إبراز التصورات والمفاهيم العربية الأصيلة وتمييزها عن تلك المستمدة من العلوم الدخيلة، والتي نتجت عن تفاعل الثقافة العربية الإسلامية مع ثقافات الأمم الأخرى التي دخلت حظيرة الإسلام.
وإذا كان الأستاذ الفاضل: د. عباس أرحيلة قد أوضح في كتابيه الأولين أن الخطابين النقدي والبلاغي عند العرب يمتلكان حصانة ذاتية تجعلهما في مأمن من كل أثر خارجي، كما تجعلهما ينعطفان على الماضي، ويستلهمان مفاهيمهما من طبيعة مادة الشعر الجاهلي، ومن خصائص التعبير البياني للقرآن الكريم، ومن المباحث اللغوية والدينية التي ظهرت خلال القرنين الهجريين الأولين، فإنه يريد أن يبين في هذا العمل العلمي الجديد - الذي نحن الآن بصدد الاحتفاء والاحتفال به - أنه مثلما كانت القضايا العلمية والتصورات النظرية والآليات المفهومية التي صاغها العلماء والنقاد العرب لتحليل الخطاب، وضمنوها في كتبهم مستمدة من صميم الثقافة العربية الإسلامية، ولم تتأثر في العمق بالموروث الثقافي للأمم الأخرى، فكذلك الأمر بالنسبة إلى طريقة ترتيب مواد الكتاب وكيفية إنتاج خطاب لغوي واصف لمتنه ومقصوده، ومقدِّم له بين يدي القارئ.
لقد أدى شيوع الكتابة، وتنامي حركة التأليف المنظم في الثقافة العربية الإسلامية منذ منتصف القرن الهجري الثاني إلى وعي العلماء العرب بضرورة تحديد ضوابط الكتابة، ووضع قواعد التأليف لتكون عمادا للأدباء والكتاب والناشئين في إنتاج مؤلفاتهم. وقد عملت العديد من الكتب منذ القرن الهجري الثالث – وهي لحظة تاريخية حاسمة ودقيقة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية- على تحديد بعض تلك الضوابط والقواعد.
ويستشف من الأحكام والتصورات التي تضمنتها تلك الكتب، والتي تروم التقعيد لأفانين الكتابة وطرائق صناعة المؤلفات وتقديمها للقراء أن العرب قد ميزوا – في وقت مبكر من ثقافتهم- بين مستويين من الخطاب في البنية النصية لكل مُؤَلَّف: أحدهما أساس، والآخر تمهيدي أو تصديري بلغتهم،  كما سيتضح لاحقا.
فأما الأول، فيمثله متن الخطاب الذي يروم المؤلِّف إبلاغه للقراء المستهدفين؛ وأما الثاني فتجسده مجموع العناصر التي ترافقه وتسبقه غالبا – حسب تقاليد صناعة المؤلفات قديما- والتي تتقدم باعتبارها خطابا واصفا للأول ومقدما له بين يدي القارئ.
فقبل الشروع في عرض مضامين الكتاب وإبلاغ الخطاب المقصود، كان الكاتب العربي يعي – نظريا على الأقل- أن عليه أن ينتج نصا موازيا لنصه الأصلي، يهيء فيه قارئه المفترض – ذهنيا ونفسيا ومعرفيا- ليتلقى خطابه على النحو الأفضل، وذلك من خلال التصريح باسمه، وتحديد طبيعة موضوعه، وتعيين مجاله المعرفي، وكشف الدواعي الذاتية والموضوعية لتأليفه له، والإحالة إلى المنطلقات النظرية التي توجه تصوراته وأحكامه، والضوابط المنهجية التي تتحكم في طرائق عرضها وتحليلها والدفاع عنها.
ويتحدد نسق هذه العناصر فيما توافق القدامى على تسميته "الرؤوس الثمانية"، وفي هذا الإطار يقول تقي الدين المقريزي845هـ): "اعلم أن عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب، وهي الغرض والعنوان والمنفعة والمرتبة وصحة الكتاب ومن أي صناعة هو وكم فيه من أجزاء وأي أنحاء التعاليم المستعملة فيه." [1]، وفي السياق نفسه يقول محمد علي التهانوي1158هـ):" الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض في صدره لأشياء قبل الشروع في المقصود يسميها قدماء الحكماء الرؤوس الثمانية. أحدها الغرض(...) وثانيها المنفعة (...) وثالثها السمة (...) ورابعها المؤلف (...) وخامسها من أي علم هو (...) وسادسها أنه من أي مرتبة هو (...) وسابعها القسمة (...) وثامنها النحاء التعليمية (...) ."[2]
فـ"فاتحة الكتاب" حسب المقريزي، أو "صدر النص" بعبارة التهانوي غير مقصوده، لأن كل واحد منهما له وقعه الخاص في فضاء النص، كما يوحي بذلك الظرف في قولهما:" قبل افتتاح كل كتاب"، و"قبل الشروع في المقصود"، والذي يشمل الزمان والمكان(أي زمن الكتابة وموقع المكتوب بالنسبة إلى البنية الكلية للخطاب). 
   ويتجلى الاختلاف بين الاستفتاح أو الصدر والمقصود في كون الأول لا يعدو أن يكون وسيلة لرسم صورة عامة ومركزة عن موضوع المتن، إلا أنها وسيلة "ضرورية"، لأنه لا يمكن تصور نص – بالمعنى المفهومي للنص حسب تقاليد التأليف عند العرب - دون عناصر التصدير، وهذا ما تنم عنه كلمتا "اعلم" و "الواجب" في مستهل النصين السالفين.
   ولاشك أن الفضل في التنبيه على القيمة الوظيفية للرؤوس الثمانية يعود إلى اليونان، وإذا كان ذلك يستشف من عبارتي "القدماء من المعلمين" و "قدماء الحكماء" الواردتين في النصين السابقين، فإنه يتضح بجلاء عند أبي عثمان الجاحظ255 هـ) الذي أرجع ذلك إلى الفيلسوف اليوناني ديموقريطس، حيث يقول: " وأما ديمقراط فإنه قال: ينبغي أن يُعرف أنه لابد من أن يكون لكل كتاب علم وضعه أحد من الحكماء، ثمانية أوجه: منها الهمة، والمنفعة، والنسبة، والصحة، والصنف، والتأليف ، والإسناد ، والتدبير، فاولها ان تكون لصاحبه همة، وأن يكون فيما وضع منفعة، وأن يكون له نسبة يُنسب إليها، وأن يكون صحيحا، وأن يكون على صنف من أصناف الكتب معروفا به، وأن يكون مؤتلفا من أجزاء خمسة، وأن يكون مسندا إلى وجه من وجوه الحكمة، وأن يكون له تدبير موصوف"[3].
   لقد دخل هذا النص أجواء الثقافة العربية الإسلامية في لحظة حاسمة تميزت أساسا- كما سبق القول- بتنامي حركة التأليف عند العرب، من جهة أولى، وبظهور كتب تقعد لعملية تأليف الكتب، وتحدد العناصر الواجب ذكرها في مستهل كل كتاب، من جهة ثانية. وإضافة على هذا وذاك، فقد صادف دخوله نضجَ تصورِ الكتاب العرب للتأليف في مقدمات الكتب في حضارة الإسلام، إذ أصبح ذلك التصور واضحا ومكتملا – كما يقول ذ.عباس ارحيلة-  منذ القرن الثالث للهجرة.
   فهل معنى ذلك أن وعي الكتاب العرب المسلمين بأهمية مكونات الخطاب المقدماتي وبوظيفتها التوجيهية بالنسبة إلى عملية قراءة متن الكتاب، إنما تم في ضوء تأثرهم بهذا النص وبغيره من النصوص التوجيهية المشابهة؟ أم أن تصورات الأمم الأخرى – وخاصة اليونان- لطريقة بناء مقدمة الكتاب وترتيب عناصرها لم يكن لها أي تأثير يذكر؟
   في رأي الأستاذ: د.عباس أرحيلة أن نص ديموقريطس الذي أورده الجاحظ :  " لم يتردد عند أهل التأليف في الثقافة العربية"، ومن ثمة، لم يجد سبيلا لتطبيقه في منهج تقديم الكتب عندهم (ص 195). وليس في هذا الحكم أي ادعاء أو مجانبة للصواب، لأن دراسة مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وتتبع التحولات التي طرأت على بنياتها والعناصر المكونة لها من بداية التأليف في تاريخ الإسلام إلى بداية النهضة العربية الحديثة – وهي الفترة التاريخية التي يتناولها الكتاب - تبين بما لا يدع مجالا للشك أن الخطاب المقدماتي عند العرب قديما كان يستمد مقوماته من صميم الثقافة العربية الإسلامية، وظل يهتدي بالخطاب القرآني ويحذو حذوه في طريقة استهلال فعل القول وافتتاح عملية الكتابة، يقول الأستاذ: د.عباس أرحيلة في هذا السياق:" وهكذا أصبح مفتتح الكتب في تاريخ التأليف عند المسلمين يقوم على ثلاثة عناصر قلما يخلو منها كتاب: البسملة والحمدلة و التصلية، وذلك اقتداء بكتاب الله تعالى، وعملا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم."(ص 84)
وإذا كانت هذه العناصر من ثوابت الكتاب الإسلامي، فلم يكن ينشد المؤلف من ورائها – فحسب - الامتثال لأمر الله، والاقتداء بكتابه في الافتتاح بالحمد، ومطلق الثناء، بل يستهدف بها أيضا التلميح إلى أن كتابه جاء بفضل الله وكرمه، وأنه من الأمور ذوات البال، ومن ثمة، إعداد القارئ نفسيا وإدراكيا لقراءة الكتاب بشكل جيد.
ذلك أن ديباجة الكتاب الإسلامي كانت تختلف مضامينها وأساليبها بالنظر إلى طبيعة موضوع المتن وحقله المعرفي، فصيغ الحمدلة و التصلية في كتب التفسير تتميز – شكلا ومحتوى- عن تلك التي توجد في كتب اللغة أو النقد والبلاغة أو الجغرافيا. وإذا كان هذا الأمر من الأشياء الهامة والجديدة التي توصل إليها الأستاذ الجليل: د. عباس ارحيلة وكشف عنها، فإن قيمتها العلمية تكمن أساسا في كونها تبرز أن مقدمة الكتاب في التراث العربي الإسلامي كانت تحرص منذ الكلمات والأسطر الأولى التي تستهل بهــــــا
خطابها على وضع القارئ في المدار العلمي للكتاب، وتقدم إليه بعض العناصر الأولية التي تشي بموضوعه وتلمح إليه بصورة تثير في نفس القارئ رغبة جامحة في الاطلاع عليه وقراءته.
ولا تنحصر قيمة ديباجة الكتاب في التراث الإسلامي في كونها تعمل – من خلال طريقة انتظامها وأسلوب صياغتها- على برمجة فعل القراءة وتوجيهه فحسب، ولكنها تروم أيضا وأساسا تطهير نفس القارئ وتخليص فكره وخياله من الشوائب المادية والانشغالات اليومية التي تتعارض مع قدسية العلم، والتي قد تحول دون تمثل مضامين الكتاب، فالعلم عبادة، وشرط تمثله على النحو الأمثل يتم عبر إخلاص النية والتوجه إلى الله بصادق الدعاء والاستخارة.
وقد يقول قائل إن تأصيل العرب للخطاب المقدماتي ينحصر فقط في ديباجة الكتاب في التراث الإسلامي، ولا يعدوه إلى العناصر الأخرى، وأن وعي العرب بأهمية الرؤوس الثمانية وضرورة تصدير الكتب بها، إنما تم في ضوء تأثرهم بالثقافات الدخيلة، وفي رأي الأستاذ الفاضل: د.عباس أرحيلة فهذا لأمر مجرد ادعاء لا أساس له من الصحة، وتفنده شواهد مادية وحجج منطقية عديدة،  لعل أبرزها أن مقدمة الكتاب لم تكن شيئا طارئا في الثقافة العربية ، ولكنها اتخذت ملامح جنينية أولى في الخطب والأشعار العربية منذ الجاهلية، وتطورت بعد ذلك بفضل تنامي حركة التأليف في الإسلام. ولتأكيد ذلك وقف ارحيلة عند المصنفات العربية الأولى التي ألفت قبل القرن الهجري الثالث، فكشف عما سماه بذور المقدمات التي كانت واضحة في مطالع شعر الجاهليين وبدايات خطبهم، وفي بعض كتب اللغويين والمحدثين، يقول في هذا الإطار: «ومع كل ما يمكن أن يقال عن واقع المقدمات في مصنفات القرن الهجري الثاني، فإننا نلاحظ بذورا للمقدمات كانت تمهد للكتب، وظلت تتنامى لتتشكل منها المقدمات عامة في هذه المرحلة من التأليف» (ص191).
إن هذه البذور التي يتحدث عنها ذ. عباس أرحيلة و يتابع انبثاقها ونموها هي التي ستنضج وتتطور لتزهر في الأخير خطابا موازيا للنصوص المركزية يتقدمها ليعرف بها، ويقترح طريقة ملائمة لقراءتها.
أخيرا، لقد وجدت في هذا الكتاب، كما وجدت في الكتب السابقة لأستاذي الفاضل عباس أرحيلة فكرا موسوعيا يحيط بكليات الكتاب في التراث العربي الإسلامي وجزئياته، ويتابع مختلف التحولات والتطورات التي طرأت على بنياته النصية ووظائفه التداولية، ويبين بما لا يدع مجالا للشك أن كينونة الكتاب في التراث الإسلامي ظلت عربية أصيلة سواء في مجمل القضايا والتصورات، أم في طريقة تقديمها إلى القراء.





[1] تقي الدين أبو العباس المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط2، 1987، 1/3.
[2]  التهانوي: كشف اصطلاحا الفنون ، دار صادر، بيروت ، د.ت. 1/ 10-11.
[3]  أبو عثمان الجاحظ: الحيوان، تح: عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، ط3، 1969، 1/101-102.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق