د.يوسف الإدريسي
كتاب عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر
مقدمة:
عتبات
النص بنيات لغوية وأيقونية تتقدم المتون وتعقبها لتنتج خطابات واصفة لها تعرف
بمضامينها وأشكالها وأجناسها، وتقنع القراء باقتنائها، ومن أبرز مشمولاتها: إسم
المؤلف، والعنوان، والأيقونة، ودار النشر، والإهداء والمقتبسة، والمقدمة... وهي
بحكم موقعها الاستهلالي-الموازي للنص والملازم لمتنه تحكمها بنيات ووظائف مغايرة
له تركيبيا وأسلوبيا ومتفاعلة معه دلاليا وإيحائيا، فتلوح بمعناه دون أن تفصح عنه،
وتظل مرتبطة به ارتباطا وثيقا على الرغم من التباعد الظاهري الذي قد يبدو بينهما
أحيانا.
وقد
أسهم ظهور كتاب عتبات لجيرار جنيت (1987) وقبله: إنتاج الفائدة
الروائية لشارل غريفل (1978)،
وخطاب الرواية لهنري ميتران (1986)
وغيرها من الكتب في تنامي الوعي بالقيمة الجمالية للخطابات الموازية للنص وأهميتها
الدلالية والإيحائية، فأخذت الدراسات المعاصرة تتجه نحو مقاربة طبيعة الأمشاج
النصية والوظائف الدلالية والرمزية التي تؤديها تلك العناصر التي تسبق الكتاب
وتعقبه، وتطوق متنه وتحيط به، لتنتج خطابا يمتد من النص إلى العالم ومن العالم إلى
النص، ويشكل في امتداده نقطة الوصل وجسر اللقاء.
ولئن
كان ظهور بعض العلوم المهتمة بالتواصل ودراسة أساليب التأثير في المتلقي وتوجيه
انتباهه نحو "بضاعة" بعينها تحكم في طرائق صياغة كثير من عتبات النص
وتشكيلها، فقد أسهم تطور تقنيات طباعة النصوص وترويجها إلى حد بعيد في تزايد
الاهتمام بها.
وليس
معنى ذلك أن الوعي بقيمة العتبات وأهميتها حديث النشأة متأخر الظهور، وأنه ظل مرتبطا
بعلوم محددة، متوقفا على اكتشاف الطباعة وتطورها، بل إنه قديم قدم حركات التأليف
الأدبي والعلمي، وبالرغم من كونه لم يبلغ أعلى درجات النضج النظري والمنهجي
والتطبيقي، إلا أنه انبثق –بدرجات متفاوتة- مع ظهور النصوص الأولى، وأخذ في
التنامي والتطور وفق مستوى وعي القدامى بقيمة عتبات النص وأهميتها.
وإذا
كانت الدراسة الراهنة تسعى إلى مقاربة عتبات النص من خلال متن روائي، فإنها ترى
–لاعتبارات نظرية ومنهجية أيضا- ضرورة الوقوف قبل ذلك عند التصورات القديمة
والحديثة بهذا الخصوص، ولذلك تشجرت إلى ثلاثة أقسام:
يرصد
القسم الأول وعي العرب قديما بالعناصر النظرية المشكلة لعتبات النص، ويبحث من ثمة
في المصادر الأدبية والنقدية عن درجة هذا الوعي ومستواه، ويتابع الشبكة الاصطلاحية
التي وظفها العرب القدامى في معرض مقاربتهم لما يصطلح عليه في اللغات الواصفة
بعتبات النص، وذلك لكشف المصطلح الذي يمكن اعتباره معادلا للعتبات وفق الاصطلاح
الحديث، كما يستعرض أبرز تصوراتهم ومواقفهم بخصوص الوظائف الإيحائية والدلالية
لاسم المؤلف والعنوان والمقدمة وغيرها من العناصر التي تسبق متن الكتاب وتنتج
خطابا حوله يعرف به ويقنع القارئ بقيمته وأهميته.
ويتابع
القسم الثاني أبرز التصورات الحديثة التي اعتنت بتحديد مكونات عتبات النص وعناصرها،
مركزا في ذلك على كشف درجات الوعي ومستويات الاهتمام بها في الثقافة الغربية منذ
اليونان إلى الكتابات الرائدة لجيرار جنيت وهنري ميتران وشارل غريفل وغيرهم.وقد
حرص هذا القسم على إبراز التحولات البنيوية والأسلوبية التي مست العتبات، وتحديد
أهم وظائفها الجمالية والدلالية.
أما
القسم الثالث فقد حاول ممارسة كل التصورات النظرية والمنهجية الواردة في القسمين
السابقين في إضاءة عتبات رواية: الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى لعبد الرحمن
منيف، وخاصة: إسم المؤلف والعنوان والأيقونة والمقتبسات وصفحة "للمؤلف
نفسه" وتعليق "سعد الله ونوس"، وقد سعى إلى بيان خصائصها الدلالية
والإيحائية، وإبراز وظائفها الجمالية والتداولية في علاقتها بمتن الرواية.
لقد
كان سياق ظهور الكتابات المهتمة بدراسة عتبات النص محكوما بالرغبة في التنبيه على
قيمة الموازيات النصية وأهميتها في كشف جوانب من معنى النص وبيان خصائصه الجمالية،
انطلاقا من موقعها الاستهلالي، دون أن يعني ذلك إطلاقا الدعوة إلى إحلال العتبات
محل النص، والانشغال بدراستها على حساب كشف خصائصه الفنية ومميزاته الدلالية
والوظيفية. ولعل في تسميتها بالعتبات أو الهوامش النصية ما يشير إلى ذلك، ويشي
بكونها مجرد نقط للعبور والولوج إلى عوالم أرحب وفضاءات متمفصلة بقوة وبكيفية أكثر
تعقيدا.
ولئن
كان الاهتمام قد ازداد في السنوات الأخيرة بموضوع العتبات، إثر ظهور عشرات الكتب والمقالات،
فإن ذلك يبيح السؤال عن جدوى إصدار كتاب في العتبات النصية بعد كل ما كتب عنها،
وتجاوزا لكل الصيغ التقليدية التي تتمحل تقديم جواب على أسئلة من ذلك القبيل،
أكتفي بتوجيه أخلص عبارات الشكر والامتنان لأستاذي وصديقي: الدكتور عبد الجليل
الأزدي الذي وجهني –منذ سنين خلت- إلى البحث فيه، وظل يمدني
بأبرز الكتابات وأحدثها فيه…
يوسف الإدريسي
elidrissi7@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق