الخميس، 9 أبريل 2015

تصدير الدكتور عبد الجليل هنوش لكتاب مفهوم التخييل في النقد والبلاغة العربيين: الأصول.....والامتدادات


تصدير

يعد مفهوم " التخييل" واحدا من المفاهيم الإشكالية المكونة لشبكة المفاهيم المعقدة في التراث النقدي العربي؛ وذلك لتعدد مساراته وتجذره في كل الكتابات البلاغية والنقدية والفلسفية. ولذلك كان لابد من تتبع جذوره وتشكلاته المختلفة في التراث العربي بدءا من النصوص المؤسسة لهذا التراث إلى حدود المسارات الفكرية والمنهجية التي ارتادها الفكر العربي في مجالاته المختلفة النقدية والبلاغية والفلسفية والكلامية.
وقد تولى هذه المهمة الأستاذ يوسف الإدريسي باقتدار في هذا الكتاب الذي كان في أصله رسالة لنيل الدكتوراه في وحدة "البلاغة وتكامل المعارف" التي أنشأناها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش منذ سنة 1998.
ويظل هذا الكتاب، في نظرنا، مرجعا أساسا في إدراك مسارات مفهوم "التخييل" في تراثنا النقدي والبلاغي، فقد استوعب الاجتهادات التي سبقته وأضاف إليها جهدا في تتبع جذور المصطلح وتقلباته في البيئات التي عرفها ذلك التراث، وقد اختصر هذه البيئات في بيئتين اثنتين هما: البيئة البيانية والبيئة الفلسفية؛ حيث مهد للبيئة الأولى بدراسة تأصيلية للمفهوم في النصوص المؤسسة للبيان العربي، ثم عالج المفهوم في قمة تشكله مع شيخ البلاغيين وإمامهم عبد القاهر الجرجاني؛ كما مهد بالأسلوب التأصيلي نفسه للبيئة الفلسفية من خلال حفر في النصوص الأولى للترجمات العربية للموروث اليوناني وجهود الفلاسفة المسلمين، ثم وقف مع المفهوم في قمة تبلوره مع شيخ النقاد العرب وإمامهم حازم القرطاجني. وبذلك يكون، في رأيي، قد أحاط إحاطة تامة بالسياق المعرفي المؤطر لهذا المفهوم الإشكالي.


لقد كان الحفر في الدلالات المعجمية واللغوية للمفهوم ضروريا جدا لإدراك امتدادات المفهوم فيما بعد في السياقين العربيين: سياق التخييل المرتبط بالمقولات البيانية والكلامية؛ وسياق التخييل المتصل بالمقولات الفلسفية.
وبالرغم من إدراكنا لخطورة دراسة المفاهيم في سياق التراث العربي الإسلامي معزولة عن الأنساق الفكرية المتميزة التي صاغها العلماء المتقدمون نقادا كانوا أو متكلمين أو فلاسفة، فإننا مضطرون في مرحلة البحث التأصيلي لهذه المفاهيم إلى القيام بهذه الرحلة التي تقطع السياقات بصورة عمودية مع الحرص على الإدراك العام لخصائص الأنساق التي يمر منها المفهوم عبر التاريخ.
ولذلك فإن مفهوم التخييل عند عبد القاهر الجرجاني بوصفه ممثلا للنسق البياني لا يمكن فهمه إلا في تقاطعه مع بقية المفاهيم التي أصلها عبد القاهر في سعيه لبناء وعي جديد بدلائل الإعجاز وأسرار بلاغة الكلام. كما أن المفهوم نفسه لا يمكن فهمه عند حازم القرجاطني إلا بإدراك كامل لطبيعة مشروع حازم النقدي المتميز[1]. ذلك المشروع الذي وصفه أستاذنا د.جابر عصفور مرة بالتكامل، واستعار منه د.يوسف الإدريسي هذا الوصف؛ وإن كانت معاني "التكامل" عصية على الاستيفاء، محتاجة دوما إلى البناء في وعي تام بجوهر مشروعه الأصيل.
إن تطور الفكر النقدي العربي، وتطور فهم النقاد للشعر بوصفه فاعلية إبداعية متميزة، يفترض الكثير من الحذر أثناء الحكم على آراء النقاد استنادا إلى موقفهم من التخييل وحده دون ربط ذلك بالنسق النقدي الذي أسسوه.
فالمفهوم سواء أكان ضمنيا يفهم من سياقة الكلام، أو كان صريحا بينا في تصاريفه المختلفة لا يمكن فهمه إلا بمراجعة تامة للنقد العربي القديم وبقراءة متأنية وحذرة لنصوصه، ولكن بوعي جديد بـأنساقه البنائية المتميزة التي تشكل جوهر ثراء هذا النقد وغناه.
ولذلك يعد هذا الكتاب لبنة أساسية في مراجعة المفاهيم الإشكالية الأخرى المشكلة للتراث البلاغي والنقدي، والتي تحتاج إلى بحث بالطريقة التأصيلية نفسها، وبالمنهج الحفري ذاته حتى نتمكن في النهاية من استيفاء هذه المفاهيم في صورتها التكاملية. وهو مشروع نسأل الله العون لإكماله، ونشكر الأستاذ الإدريسي لافتتاحه.
وبعد، فإنني أقدم للقراء ولطلبة العلم هذا الكتاب المهم الذي يشكل حلقة قوية في سلسلة مراجعة مفاهيم التراث النقدي والبلاغي العربي، مهنئا الباحث النشيط الدكتور مولاي يوسف الإدريسي ومتمنيا له دوام السداد والتوفيق في خدمة تراثنا النقدي، ومعتزا به وبجهوده بوصفه واحدا من أنجب من تخرج من وحدة التكوين والبحث: "البلاغة وتكامل المعارف" وحمل همها بصدق وإخلاص.
والله نسأل أن يوفقنا للخير والصواب، وأن يسدد خطانا في خدمة هذا التراث العظيم، وهذه اللغة الجليلة.

                                 د.عبد الجليل هنوش
                               أستاذ البلاغة والنقد- كلية الآداب- مراكش
                                       مراكش في 16 أكتوبر 2014




[1] من الطريف أننا لا نتوفر حتى اليوم على دراسة علمية وافية عن مشروع حازم القرجاطني على الرغم من كثرة الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية التي أنجزت عنه. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق