الخميس، 9 أبريل 2015

امتدادات المفهوم الفلسفي للتخييل عند البلاغيين المغاربة



مقدمة الكتاب

اتسم الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب –عبر سيرورتيه التاريخية والمعرفية- بتحولات مست أسسه النظرية وآلياته الإجرائية واتجاهاته التطبيقية، فتميزت كل مرحلة من مراحل تبلوره المعرفي واشتغاله الإجرائي بسيادة تصورات وأحكام جمالية خاصة، وهيمنة أجهزة مفهومية دون أخرى، إلى حد يمكن معه إعادة التأريخ له استنادا إلى درجة سيادة بعض المفاهيم والأحكام والتصورات وانتشارها في لحظات معينة بين النقاد والبلاغيين، ومدى اعتمادهم إياها آلية لتحديد شعرية الخطاب دون سواها.
        فبعد أن تخلص النقد والبلاغة العربيين من الآراء والمواقف التأثرية والانطباعية، وارتقيا بالنظر والحكم إلى التعليل الموضوعي والاستدلال العلمي المقنع الذي يتوسل بتصورات "نظرية" ويستند إلى رؤى منهجية مخصوصة، مع ابن طباطبا العلوي (ت322هـ) وقدامة بن جعفر (ت337هـ) وغيرهما من النقاد الذين جاؤوا بعد المرحلة الأولى لتأسيس المصطلحات وتأصيل التصورات، تركزت الجهود البلاغية والمشاريع النقدية على بلورة أجهزة نظرية وآليات تحليلية شاملة وعميقة، تمكِّن من جمع شتات المصطلحات ولَمِّ التصورات المتفرقة، وتكثيفها في مفهوم واحد، يخرج بالأحكام والتصورات من التشتت والتكرار، ويؤسس لمقاربات جديدة ... ودقيقة تكون أكثر إحاطة بعناصر القضية أو الظاهرة المدروسة.


        وتكفي العودة إلى المدونة النقدية القديمة لتبين أن أبرز التحولات التي عرفها التفكير النقدي والبلاغي عند العرب إنما كان إيذانا بنضج الممارسة النظرية والمنهجية عند العرب، وارتقائها بآلياتها التحليلية وتصوراتها النقدية من الملامسة الجزئية إلى الاستبطان الكلي العميق. وقد تحقق ذلك من خلال مفاهيم، أبرزها: مفهوم عمود الشعر، ومفهوم النظم، ومفهوم التخييل.
فقد كان "عمود الشعر" الذي استقاه أبو علي المرزوقي (ت421هـ) من جهود النقاد والمتأدبين السابقين عليه، مفهوما متقدما في تاريخ النظرية النقدية عند العرب، أنهى به نقاشا طويلا كان يحصر فيه أصحابه جمالية الخطاب الشعري ضمن مكونات أسلوبية خاصة، ومحددات إبداعية دقيقة، ويرجعون من خلالها شاعرية الشاعر إلى مدى تمكنه من توظيفها وحسن صناعتها، فأوضح أن أدبية الشعر وبراعة الشاعر لا تعود إلى اللفظ والمعنى فقط، ولا إلى الصدق أو الكذب، ولا إلى الطبع والصنعة وغيرها من الثنائيات التي كانت تقارب مقاربة جزئية عند السابقين، وتنتهي بهم إلى تفضيل أحد عناصرها على الأخرى، بل ترجع -في تصوره- إلى حسن الربط بينها جميعا وجمالية صياغتها والتوليف بين عناصرها.
وكما هو الشأن بالنسبة إلى مفهوم عمود الشعر، كان مفهوم النظم لحظة بارزة في تاريخ البلاغة العربية، وقد استطاع من خلاله عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) أن يضع حدا لنقاش عمر طويلا، ولمشكل استفحل كثيرا، وكان يحول دون إدراك أبعاد جديدة في جمالية الخطاب، فبعد أن كان البلاغيون منقسمين إلى فريقين كل واحد منهما يناصر اللفظ أو المعنى ويرجع لأحدهما شعرية الخطاب، أبرز الجرجاني أن "أدبية الخطاب" لا تعود إلى المكون اللفظي ولا الدلالي، وإنما إلى طرائق تركيبهما ودرجات تآلفهما وتعالقهما، وهو ما سماه "النظم"، وهو مفهوم خلص به التراث البلاغي من هاته الثنائية الضيقة، وفتح به آفاقا رحبة أمام البلاغيين والنقاد اللاحقين.
ومن المفاهيم الكلية أيضا التي أسهمت إلى حد بعيد في تطور الممارسة النقدية والبلاغية عند العرب ونضجها مفهوم التخييل، وهو مفهوم على قدر كبير من الأهمية والخطورة معا، وعرف تحولات مست كينونته الاصطلاحية وقيمته الإجرائية، فبعد أن كان مصطلحا جزئيا يقارب بعض القضايا الأسلوبية في جمالية الخطاب، تحول مع الفارابي (ت339هـ) وابن سينا (ت428هـ) وحازم القرطاجني (ت684هـ) إلى مفهوم كلي جامع، يكثف تصورات عدة وعميقة. فلم تعد تقارب –في ظل اشتغاله وتوظيفه معهم- قضايا النقد والبلاغة مقاربات تجزيئية، وضمن آليات مفهومية متنوعة، بل أصبحت تعالج ضمن رؤية نسقية مترابطة، استنادا إلى التخييل الذي صار مفهوما نظريا وإجرائيا دقيقا وشاملا، يحيط بمختلف عناصر الخطاب الشعري ومستويات إنتاجه وتلقيه.
ولم يكن من الممكن لهاته المفاهيم أن ترقى إلى درجة الكلية والشمول دون استفادة النقاد والبلاغيين من جهود اللغويين والمتكلمين والفلاسفة وغيرهم، فقد كان للتراث العربي الإسلامي بمختلف روافده أثر بالغ ومتفاوت في تشكلها واشتغالها، وهو أمر يبدو جليا من خلال قيامها على أبعاد بيانية وإعجازية ونفسية وفلسفية وأصولية. ولئن كانت هاته المسألة تقودنا إلى بحث حدود التأثر والتأثير بين الثقافة العربية الإسلامية وغيرها من الثقافات القديمة، فإنها تدفعنا إلى تسجيل ملاحظة أساس مؤداها: أنه مالم تقرأ المنجزات النقدية والبلاغية –وضمنها المصطلحات والمفاهيم- في إطار السياقات المعرفية والشروط التاريخية لتبلورها، يظل إدراك كل أبعادها وفهم دقائق تلويناتها أمرا بعيد المنال.
ولا يعني ذلك أن وكد الكتاب وأقصى طموحه ينحصران في القراءة السياقية، بمستوييها التاريخي والمعرفي، بل المقصود الدفاع عن قراءة تفاعلية للتراث، وهي قراءة تعي أولا استحالة إنتاج قراءة ثانية مستنسخة لقراءة أولى في ظل اختلاف شروط التلقي وتغير مرتكزاته، فتغير السياق يفرض حتما تغير نمط القراءة، وكل إصرار على إنتاج قراءة من هذا القبيل سيجعلها ممسوخة وغير تاريخية. وإذ تعي القراءة التفاعلية ذلك لا تنكفئ على المقروء وتقصره على الشروط الذاتية والموضوعية التي أنتجته، بل تنظر في العناصر أو البنيات والتصورات التي تلتقي بمنجزات العلم الحديث، وتسمح بتطويره وإثرائه، دون أن تغفل في معرض ذلك دور فعل القراءة وعملية التأويل في إعطاء معنى للمقروء. 
من ثمة فقراءتنا للتراث النقدي والبلاغي عند العرب، ومتابعتنا لمفاهيمه ومصطلحاته لا تتوخى البحث في الأسس المعرفية والمرتكزات النظرية، ومتابعة الخصوصية الثقافية، بل تنشد أيضا -وفي الوقت نفسه- النظر في التصورات والرؤى التي تتجاوز ضيق الخصوصية وتخرقها لتلامس رحابة الكونية والكلية. وهو ما يجسده مفهوم التخييل في التراث النقدي عند العرب الذي كان نتاج حسن الربط بين العلوم الأصيلة والعلوم الدخيلة، أعني البيان والفلسفة. 

وإذا كان الكتاب الراهن سيتابع المفهوم الفلسفي للتخييل عند البلاغيين المغاربة، فإنه سيبحث ذلك من خلال الوقوف عند مصطلحات الخيال والتخيل إلى التخييل في المدونة الشعرية واللغوية عند العرب أولا، ثم عند البلاغيين العرب المتقدمين باعتبارهم أول من حدد المفهوم واشتغل به نظريا ومنهجيا وتطبيقيا، كما سيتابع التصورات الفلسفية للتخييل التي كانت مرجعا نظريا لحازم القرطاجني وغيره من بلاغيي الغرب الإسلامي في توظيف التخييل الشعري وتأطيره نظريا ومنهجيا، وهي متابعة ضرورية لإدراك مفهوم التخييل عند البلاغيين المغاربة، وتحديد عناصر التقاطع والاختلاف بين المفهوم لديهم ولدى غيرهم من البلاغيين الآخرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق