كتبي في مرايا النقد




انطباعات حول كتاب عتبات النص للأستاذ يوسف الإدريسي

الأستاذ الدكتور علي المتقي

كلية اللغة العربية-جامعة القاضي عياض-مراكش

     
      ط 1                                                                 ط2
                                                             

 كتاب عتبات النص كتاب أهداه إلي  الباحث الشاب يوسف الإدريسي  مشكورا، ورد جميل هدية كهذه يكون بقراءة الكتاب  وإبداء الرأي فيه،  لا من باب الأستاذية -معاذ الله- وإنما من باب الزمالة والصداقة والحب المتبادل بين الأصدقاء والزملاء.
بعد قراءة هذا الكتاب قراءة متسرعة بدت لي هذه الانطباعات الأولية التي يمكن أن تكون أيضا متسرعة وغير دقيقة، لكنها تعكس حبي للموضوع وللكتاب وصاحبه.
1 ـ اسم المؤلف:
   ابتدأ الباحث يوسف الإدريسي قراءته  لعتبات رواية "هنا.. الآن... أو شرق المتوسط مرة أخرى" لعبد الرحمان منيف  مما أسماه الإسناد. والإسناد مصطلح حديثي قبل أن يكون مصطلحا بلاغيا، ولا يفيد دائما  في الحديث أو في البلاغة  أن المسند هو فاعل الفعل. فقد يكون ناقلا أو راوية، لذا أفضل مصطلح الكاتب أو المؤلف الذي يفيد في الاصطلاح الأدبي كاتب العمل ومؤلفه ومبدعه. فهل تفيد هذه العتبة دائما، وكيف تفيد؟
إن هذه العتبة تفيد إذا كان المؤلف اسما حجة في تخصصه، وفي هذه الحالة، سيكون لها  وظيفة الإثارة والجدية  والمصداقية  واختمار الرأي، مما يساعد على حسم التردد في شراء الكتاب. وقد يكون إسم المؤلف ماركة مسجلة لكنها ذات سمعة عكسية منحطة، وفي هذه الحالة قد تكون هذه العتبة وبالا على الكتاب. أما إذا كان إسم المؤلف غير متداول في الأوساط النقدية، إذ ذاك يكون محايدا، وتنحصر وظيفة هذه العتبة  في تحقيق التراكم  ليصبح الإسم ذا قيمة علمية وثقافية في مجال اختصاصه.
قد لا أكون عارفا كقارئ عاد بحياة عبد الرحمان منيف الشخصية، ولا قرأت رواياته أو بعضها، لكن موقف النقد منه جعله يتصدر مكانة مرموقة في الإبداع الروائي، وأقنع القارئ العربي بهذا الحكم. من هنا، فالذي يحدد قيمة المؤلف ليس هو كتاباته وحدها عند جمهور القراء غير المتخصصين، ولكنه موقف النقد منه، وموقف الثقافة المدرسية والجامعية  التي تعد بمثابة اللوحة الإشهارية التي تُعلق عليها قيمة هذا الكاتب أو ذاك، أو هذا العمل أو ذاك. من هنا فهذه الكتابات هي التي يمكن أن تكون المتن الذي يجب أن يحدد لنا قيمة المؤلف لا حياته الشخصية، ولا عرض كافة أعماله  الأدبية وغير الأدبية، ولا خصوصية هذه الأعمال التي يجهلها القارئ غير المختص عادة. فماهي مكانة هذا الإسم في الثقافة العربية؟ وما مدى حضوره كإسم في المجلات والصحف الثقافية؟ وما مدى حضوره في الثقافة المدرسية والجامعية.
 إن عبد الرحمان منيف إسم له حضور ثقافي متميز في مجال الكتابة الروائية، احتفى به النقد الصحافي والنقد الأكاديمي، ولا تذكر الرواية العربية والروائيون العرب إلا وتصدر لائحة الروائيين الكبار المتميزين. لذا فهو مبدع حجة لما حققته كتاباته الروائية السابقة من سمعة طيبة.

  2-  العنونة:
نجح يوسف الإدريسي في مقاربة أسلوبية للعنوان فحلل مكوناته "(هنا) ونقط الحذف و( الآن) وحرف العطف( أو) و(شرق المتوسط مرة أخرى)  واللون. لكنه في تحليله هذا يقدم تفسيرا  وتأويلا لنتائجه بالعودة إلى النص الروائي، دون الالتفات إلى الوظائف التي حددها  في فصله الثاني المتعلق بالتنظير الغربي،  وبشكل خاص وظيفة الإثارة، وهي وظيفة لا تجد تأويلها وتفسيرها في المتن الذي لم يقرأ بعد، بل في غموض مكونات العنوان وشعريته التي تفتحه على تأويلات شتى تهم القارئ وتغري فضوله، وتخلق لديه شهية القراءة. وهذا ما حققته الإشاريات (هنا)  ونقط الحذف و(الآن). لقد ذكر الكاتب الزمان والمكان وأخفى الفعل ليعلن ضرورة قراءة الرواية لإشباع الفضول.
وحتى  يغري قارئه أكثر، ويحكم عليه الطوق، ولا يسمح له بالتبرم، يضيء هذا الغموض الذي يكاد  يكون معتما لإبهاميته بالإشارة إلى شرق المتوسط مرة أخرى. وهو شرق معلوم في الرواية الأولى، لكن هذه الرواية بالتأكيد تقدم فعلا آخر من الأفعال التي تميز شرق المتوسط، قد يكون فعلا نقيضا للفعل الأول، وقد يشترك معه الحقل الدلالي نفسه، لكن عبارة مرة أخرى توحي بالتماثل بين الفعل الأول الذي تتحدث عنه الرواية الأولى والفعل الثاني الثاوي في الرواية الثانية.
وقد أشار الإدريسي إلى غياب الفعل في عتبة العنوان وفسر هذا الغياب بتماثل  كل البلاد العربية  وتشابهها من المحيط إلى الخليج  في هذا الوضع. وهو تأويل غير مقنع، لأن التماثل في الأمكنة لا يكون بالفعل، وغياب الفعل هنا، قد يكون دلالة  على السكون وعدم التغيير بين  شرق المتوسط في زمن الرواية الأولى وشرق المتوسط في زمن الرواية الثانية.
إن غيابه غياب للتحول في الزمن بين الأمس واليوم، وليس غيابا له في المكان، فالمقارنة إذن تكون بين زمنين وليس بين مكانين.
وقد أبدع  الإدريسي في تحليل أيقونة الغلاف التي توحي بعالم السجن والتعذيب الذي يمارس فيه.
وتبقى ملاحظة بسيطة  حول هذا التحليل تتعلق بالاستشهاد بالنص لتأكيد تأويلاته، والواقع أن قيمة العتبات تكمن في ما توحي به من احتمالات  تثير في القارئ شهية القراءة، وهذا يتحقق قبل قراءة  نص الرواية، وبذلك ينبغي قراءة  صورة الغلاف بوصفها عتبة لها وظائف معينة باستقلال عن الرواية.
3- المقتبسات:
بقدر ما كان الباحث الإدريسي موفقا إلى حد بعيد في مقاربة العنوان والأيقونة بقدر ما تاه  في تحليل المقتبسات، إذ فهمها فهما خاصا بعيدا عن النص وحاول جاهدا ربطها به مستشهدا بجمل وعبارات من الرواية.
تقول المقتبسة الأولى من حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين الدميري: "وروي عن ابن عدي عن عمرو بن حنيف  عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا، فقلت: أذئب في الجنة؟ فقال: أكلت ابن شرطي، فقال ابن عباس: هذا وإنما أكل ابنه، فلو أكله رفع في عليين".
يرى الباحث أن هذه المقتبسة تريد الإشارة إلى توهم الذئب بأنه قام بفعل حسن ظنا منه تخلصه من مصدر الإيذاء والظلم، وذلك بانتقامه للبشر من الشرطي وأكله لابنه،  بينما هو في الحقيقة لم يقم إلا بالاعتداء على إنسان بريء لا وزر له في ما يرتكبه أبوه من آثام. فقد أكل ابن الشرطي تاركا أباه دون أن يمسه بسوء وكان عليه بالأحرى أن يتخلص منه هو ذاته... وهذا يكشف أن الذئب ظل وفيا لبطشه وأفعاله القبيحة". [ص118]
يربط الباحث في الصفحة 118 بين الذئب وبين زكي رمز القيادة البيروقراطية الذي يراه: ذئبا ماكرا بارعا وأقرب إلى النفاق. ويتوهم (زكي) -مثلما يتوهم الذئب  من قبل-  أنه يسجل انتصارا، ويحمي التنظيم بطرد مجموعة من الأعضاء منه، بدعوى الانحرافات والأخطاء الجسيمة التي تسببوا فيها.
ويضيف في الصفحة 119: "وتجد هذه الإشارة ما يدعمها في كون الذئب حسب ما جاء في المقتبسة  ووفق الصفات التي يتميز بها لا يمكنه أن ينهي حياة ابن شرطي بل ولا حتى حياة الشرطي نفسه لكونهما (الشرطي والذئب) يلتقيان معا في إيذاء الناس والبطش بهم،  ومن ثمة يستحيل أن يساهما في تخليص الناس من أي أذي يلحق بهم، الأمر الذي يستوجب ألا يتكل الإنسان على الآخرين في التصدي للمخاطر التي تعترضه  وإرجاع حقوقه ولكن عليه أن يعمل بنفسه على تحقيق ذلك".
ويخلص من خلال هذا كله إلى الخلاصة الآتية: تروم المفارقة التي تتضمنها المقتبسة الأولى  التأكيد أن الذئب باعتباره من رموز الإساءة والبطش لا يمكنه أن ينوب عن الناس في وضع حد للمكروه الذي يصيبهم كما أن الجلاد بأشكاله الظاهرة  والخفية لا يمكن التخلص منه بعامل خارجي، ولا بالمبادرات الفردية أو حتى الجماعية المحدودة  بل بتضافر كل القوى والجهود".
هذا التحليل الذي قام به الباحث الإدريسي يجانب الاحتمالات التي توحي بها المقتبسة الأولى كثيرا، ومرد ذلك كما سبقت الإشارة  إلى محاولة تأويلها بعد قراءة  نص الرواية التي وجهت التحليل والتأويل.
نص كمال الدين الدميري –كعتبة-  يجب أن يفهم في ذاته بوصفه حديثا نبويا شريفا، ثم فهمه في علاقته بالعنوان، وصورة الغلاف،  وما يوحي به من احتمالات يتضمنها نص الرواية.
أولا النص بوصفه حديثا نبويا: أورد عبد الرحمان منيف النص من حياة الحيوان الكبرى بوصفه حديثا نبويا شريفا مرفوع السند إلى الرسول (ص)، وهذا الشكل -سواء أكان الحديث صحيحا أم موضوعا لأن المجال ليس مجال تصحيح الإسناد، وإنما المهم هو شكل تقديم المقتبسة- يمنح نص مصداقية وصحة،  إذ يصبح موضوع الحديث صحيحا لا يمكن الطعن فيه أو رده أو تكذيبه مادام  مرويا عن الرسول الكريم.
مضمون الحديث: الذئب حيوان مفترس خبيث وماكر، عدو للإنسان ذو طبائع عدوانية. خطاياه  لبشاعتها وتعددها يعتقد أنها لا تغتفر، بدليل أن الرسول (ص) استفهم متعجبا لما رآه في الجنة قائلا أذئب في الجنة؟ ومع ذلك غفرت هذه الخطايا، ودخل الجنة بفعل واحد ووحيد هو أكل ابن شرطي، والمغفرة تدل هنا منطوقا  على نبل الفعل الذي قام به الذئب،  وبالمقابل، تدل  مفهوما على بشاعة الفعل الذي يقوم به الشرطي، لااجتماعيا فحسب وإنما دينيا أيضا. ويتأكد هذا  التفسير بقول ابن عباس: هذا، وإنما أكل ابنه، فلو أكله رفع في عليين، أي أن يرفع إلى مقام الأنبياء والصديقين والشهداء، كما يؤكد الحديث أن الشرطي بطبعه ظالم ومعتدي، وأن ضحاياه من السجناء أبرياء.
ثانيا المقتبسة في علاقتها بالعنوان وصورة الغلاف: تضيء المقتبسة الفعل المستتر  في العنوان، وتؤكد  الاحتمالات التي توحي بها صورة الغلاف أي أن موضوع الرواية أو الفعل التي تتحدث عنه هو عالم السجن  والتعذيب والتنكيل بالضحايا المظلومين.
ثالثا المقتبسة وعلاقتها بالمتن: توحي المقتبسة بقساوة التعذيب وجرمه، ومهما تخيلنا درجة القسوة والعنف والتعذيب الذي يمارسه الجلادون، فإنه لن نعبرعن قسوته مثلما عبرت عنه المقتبسة. فهي تفتح التخيل إلى أقصى مدى يمكن تصوره مادام الله عز وجل قد غفر للذئب كل خطاياه لما أكل ابن الشرطي وليس الشرطي نفسه، مما يجعل القارئ  يلج باب الرواية حذرا من رؤية بشاعة الفعل الذي يقوم به رجل الشرطة.
إن هذه المقتبسة بقدسيتها ومضمونها بمثابة التحذير الذي يكتب على الشاشة قبل رؤية منظر لا يحتمل: "ممنوع على الأشخاص الذين لا يتحملون رؤية مشاهد التعذيب".
    يتبين من هذا التحليل أن الشخصية التي يتمحور حولها موضوع المقتبسة هو الشرطي وليس الذئب  كما يوهمنا تحليل الباحث الإدريسي. ويؤكد ذلك مضمون المقتبسة الثانية التي وردت في كتاب هادي العلوي المستطرف: روي عن سفيان الثوري "إذا رأيتم شرطيا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها، فإنه يقوم يؤذي الناس.
 إنه المضمون نفسه الذي توحي به المقتبسة الأولى مع فرق في الدرجة، فالصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، والواجب إيقاظ الشرطي حتى لا يفوته أجر الصلاة في وقتها وأجر الجماعة، لكن سفيان الثوري قارن بين أجر الصلاة الجماعية في وقتها- وهو أجر كبير- وبين إيذاء الناس الذي ينتج عن إيقاظ الشرطي، فاستعظم الأذى على الأجر، وهذا يعكس أيضا مدى الأذى الذي يلحقه الشرطي بالناس والذي بسببه دخول الذئب الجنة.
في ختام هذه الانطباعات الأولية، أؤكد أن للكتاب قيمته العلمية والتربوية  التي لا يستهان بها أو تجاهلها،  وقراءته قراءة انتقادية هو السبيل الوحيد الذي يفيد الباحث الإدريسي كباحث شاب يتلمس خطواته الأولى في البحث العلمي. بهذه النية قرأت الكتاب وأبديت هذه الملاحظات. والله على ما أقول شهيد.
                                                                                     أ.د.علي المتقي

****
عتبة إلى عتبات النص ليوسف الإدريسي
                                             الأستاذة : روفيا بوغنوط
جامعة العربي بن مهيدي ـ أم البواقي ـ الجزائر




   تعد العتبات النصية بأجناسها الخطابية أول ما يشد البصر ، وقد تكون آخر شيء يبقى في الذاكرة حين ننسى النص يظل العنوان وهو واحد من بين عتبات النص يلفح الذاكرة ويصر على البقاء .
  تحملنا هذه العتبات أو ما يصطلح عليه بالنصوص الموازية إلى متاهات التأويل تشدنا إليها، فأنى لنا أن نفلت من قبضة ذلك الإغراء والإغواء الذي لا ينتهي ، كلما اعتقدنا أننا تحررنا منها عادت وطوقتنا راسمة أمالا عراضا ، تقدم لنا قرابين العشق حتى لا ننسى لذة القراءة واللقاء،إنها فخاخ للعشق تحشد الأفكار وتشدها إليها، في كل ذلك تذكرنا أنها أهدتنا مفتاحا للدخول وفي الوقت نفسه تطالبنا بضريبة هذا الدخول ، ففي النهاية إقامتنا غير شرعية مادامت القراءة قراءات متعددة، قد تمنحنا تأشيرة سفر بلا رجعة تاركة إيانا نتخبط في متاهات التأويل بلا هوادة حتى ندرك أن ليس كل العتبات النصية حاملة لامتياز الشعرية؛ إذ إننا كثيرا ما نلتقي بعتبات ونصوص موازية دون نوايا دلالية
   النص الموازي «أفق قد يصغر القارئ عن الصعود إليه وقد يتعالى هو عن النزول لأي قارئ»)1( ، حقل معرفي حظي باهتمامٍ كبيرٍ في الدراسات النقدية المعاصرة ، ويندرج كتاب الدكتور الناقد يوسف الإدريسي)عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر "الصادر عن منشورات مقاربات عام 2008 ) في سياق حركة نقدية هامة حول العتبات النصيّة  لعبت فيها الدراسات المغربية دورا بيّنا ؛ وذلك بجعل  «هذه الحركة تبلور تعاقدا متناميا بالالتزام بالمعرفة والمنهج في تهيئ وضعية علمية تسمح بإنتاج التراكم النقدي»2 ،و تمنح هذه الجهود النقدية المعتبرة الباحث وجهة  تحرره من ضبابية الرؤية، فالعتبات محافل نصية قادرة على إنتاج الدلالة من خلال عملية التفاعل وإقامة علاقة جدلية بينها وبين النص الرئيس .
من اللافت أن الناقد/ يوسف  الإدريسي قد سيج كتابه )عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر( بعتبات نصية كان مركز ثقلها الإنتاجي )الخطاب المقدماتي( الذي أوكلت دباجته إلى ناقدين هما )عبد الجليل الأزدي ( و القاص والروائي الناقد )جمال بوطيب(، وقد شكلت المقدمتان خطابا نقديا بينا ؛ حيث سعى الأزدي في تلك العتبة التي عنونها )بلاغة الاجتياز(  ، والتي يرى بأنها «لا تقوم في العبور من العتبات إلى النص ، أو من الفاتحة إلى الخاتمة ، ,إنما في العبور بين النص والقارئ، بين الداخل والخارج، بين الفني والجمالي، بكيفية مفتوحة ديمقراطية وإيجابية ومناقضة لإعادة إنتاج النص المغلق»3 ، وبالضرورة إلى تبين ما لهذا المحفل النصي من أهمية ، وإن كنا ألفينا المُقَدِم )عبد الجليل الأزدي) يُفرد حديثه لعتبة واحدة هي عتبة )البداية السردية، l’incipit romanesque)  مدرجا معها )الخواتم) ؛ ذلك أن «النثر السردي التخييلي شكل مجالا مفضلا ومتميزا لهذا عبر إضاءة واستجلاء تكنيك كتابي على نحو شعائري غالبا ، وهو التكنيك الذي يطلب الوصف في المقام الأول والمساءلة والتأويل بعد ذلك »4، ومما يحسب لــ )الإدريسي) حسب قول )عبد الجليل الأزدي( أن مقاربته تقع «ضمن هذا الشكل من العبور والاجتياز... التي جمعت بين المشاغل النظرية ودراسة حالة محددة ،علاوة على أنها صيغت في سياق أكاديمي جامعي يعود إلى بداية التسعينيات ، وذلك قبل أن تنبري العديد من المصنفات للاهتمام بهذا الموضوع »5 ويشير )الأزدي( إلى جهد عدد من الأساتذة في الجامعة المغربية كان لهم السبق في نهاية السبعينيات في الاهتمام بهذا الحقل المعرفي وإن كانت كما يقول تلك الدراسات  «ظلت رهينة التقاليد الشفوية»6 ؛لأنها شكلت مجموعة محاضرات ألقيت على الطلبة ولم تخرج عن هذا السياق ، ونعتقد أنه جهد طيب لو كتبت له الطباعة ، كان ليضيف إلى الدرس النقدي المغربي والعربي الكثير. عموما لم تخرج مقدمة )عبد الجليل الأزدي( عن إطار المقدمة النقدية -على اقتضابها – و استطاعت أن تشكل عتبة مهمة لعتبات كتاب الإدريسي.ويعود الفضل في ذلك لما يمتلكه )عبد الجليل الأزدي( من دراية ومعرفة بخطاب العتبات النصية ؛ حيث كان للناقد فعل نقدي سابق في مقاربة النصوص الموازية ؛ وهي دراسته (عتبات الموت قراءة في هوامش وليمة لأعشاب البحر، مجلة فضاءات مستقبلية ، 1996(.
حظي كتاب )عتبات النص( بعتبة مقدماتية ثانية ،كانت من توقيع القاص والروائي )جمال بوطيب( والتي يعنونها بعنوان لافت وكأننا به قد تواطأ مع الأزدي في وضع عناوين مغرية للمقدمات- ) الانتباه المزدوج( مقدمة /عتبة كتبت بنفس نقدي بعيدٍ عن التقريظ، وهو بذلك يتفق مع )عبد الجليل الأزدي( ؛إذ إن التقريظ صنيع  ما انفك يلازم خطاب المقدمات خصوصا حين تكون بين المُقدِم والمُقَدَمِ له /المؤلف سابق معرفة أو صداقة ،مما يصير بعض المقدمات إلى خطابات حجاجية دفاعية تنحاز إلى صاحب المتن الروائي أو الشعري أو النقدي؛ وهي مقدمات تقريظية قد لا تضيف للنص شيئا .
أول ما افتتح به )جمال بوطيب( خطابه المقدماتي كلمات لفيلب لان «ينبغي أن ننتبه إلى النص الموازي وأن ننتبه منه»7 ، إنه التحذير ذاته الذي قدمه جيرار جينت ) علينا أن نحذر العتبات(* ، ويتأتى هذا التحذير أو لفت الانتباه حسب )جمال بوطيب( من أن « دراسة المتوازيات هي دراسة لمنطقها ، وثانيا أن الاهتمام بها ينبغي أن يكون دونما مبالغة ؛ أي أنه يعي ازدواجية الاهتمام بالمناص إن خطورة أو استسهالا، فلا يمكن المرور أمام عتبة نصية ، كما لا يمكن بالمقابل إيلاؤها أكثر مما تستحق»، و)جمال بوطيب لم يجانب الصواب ؛ حيث إننا نتفق معه في ما ذهب إليه ، لكن اللافت بالنسبة لنا ، توظيف )جمال بوطيب(  لثلاثة مصطلحات مقابلا للمصطلح الأجنبي(le para texte) ؛وهي )المتوازيات النصيّة(، )المناص( ، )العتبة النصية( ؛ذلك  ما يعكس فوضى المصطلح التي يعيشها النقد العربي وعدم وجود مصطلح واحد للمقابل الأجنبي ، وإن كنا لسننا بصدد الحديث عن إشكالية المصطلح والمقابلات العربية .
يشيد )جمال بوطيب( بجهد )يوسف الإدريسي( الذي انبنى على  اشتغال تطبيقي لنص روائي عربي هو( الآن..هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى) للروائي )عبد الرحمن منيف( «رواية بالغة وبليغة : بنيانها مرصوص وعمقها مخصوص وعتباتها فصوص ، وهي قبل كل هذا نص لاحق لنص سابق هو يتيمة دهر أدب السجون المسماة )شرق المتوسط( »9 ، لقد قدم )يوسف الإدريسي( بكتابه هذا اشتغالا مزدوجا بين «التنظير والممارسة من جهة ، والتنظير الغربي والعربي من جهة ثانية ، والوعي بالاكتمال النظري في التراث العربي من جهة ثالثة، مواطن تجعل بحث الباحث الدكتور يوسف الإدريسي بحثا يحقق بعد نظر يسمح للقارئ بمساءلة المتن التطبيقي بهدوء» 10 ،والحق يقال إن جهد )يوسف الإدريسي( في الإحاطة بعتبات النص بوصفها عناصر نظرية في الثقافة العربية الإسلامية جدير بالإشادة.
ومما يضاف للناقد أيضا وعيه باشتغال العتبات «فلم يغرق في الاهتمام بالعتبات ، ,إنما جعلها مكونا تحليليا لا ينبغي تجاوزه مع احتراز منها باعتبار بعض من مكوناتها –إن لم نقل كلهامقاطع إيديولوجية بتعبير بارتي»11 فالنص الموازي/العتبات خطاب أساسي ومساعد سخر لخدمة شيء آخر هو النص، هذا ما أكسبه بعدا تداوليا و قوة إنجازية وعلى «الباحث أن يعي حدودها وتطبيقاتها ومرجعياتها »12 ،و )الإدريسي( حسب ما قدم به )جمال بوطيب( قد وفق في الانتباه إلى هذه الازدواجية التي تلف العتبات النصية و«لعل أهم ما يميز الكتاب هو سعي مؤلفه إلى خلق تآلف بين الدلالي واللساني في خلق السرديات من خلال مكون هو العتبات .. بتفاصيلها الصغرى من عناوين وعناوين داخلية ، ومقتبسات ووظائفها»13 ؛ بذلك عمل )بوطيب( على تتبع إشغال )الإدريسي على العتبات النصية في الخطاب السردي فقدم بالمقابل خطابا تقديميا نقديا -على اقتضابه- وعتبة نصية عملت على الوشاية بإستراتيجية الكتابة .
ثالث عتبة تصادفنا داخل هذا المتن النقدي عتبة )التقديم الذاتي( الجدير بالذكر أن )عبد الجليل الأزدي( عنون عتبته بــ )تصدير( ، أما )جمال بوطيب( فقد وضعها قيد عنوان )تقديم( ،مما يفضي إلى أن )الناقد الإدريسي( بنى عتبات كتابه بطريقة إستراتيجية ، تنم عن ذائقة نقدية واعية بهذه الخطابات الموازية ،أو كما قال )جمال بوطيب( عتبات النص « كتاب يمكنه هو الآخروغير بعيد من مضامينه المعرفية و اشتغالاته المنهجية – بما يميزه به صاحبه من نصوص موازية عليا : تصدير ، تقديم ، تذييل أن يكون محط دراسة وتحليل»14 ، إلا أننا لم نطمئن إلى مصطلح )التصدير( والذي يأتي عادة بمعنى « نقشة كتابية على حجارة بناء ، استشهاد في صدر الكتاب»15 ؛هي تلك الكتابة المحفورة على مبنى أو تمثال أو عبارة توجيهية ، أو فكرة لكتاب ، إنها تقنية تلخص فكرة المؤلف سواء كانت له أو لغيره توضع في صدر الكتاب وبالضرورة يحق لنا - في اعتقادناــ أن نطلق على تصدير )عبد الجليل الأزدي( مصطلح )مُقَدِمة( ؛ لأنها أقرب إلى ذلك .
بالعودة إلى عتبة /مقدمة )الإدريسي( على الرغم من أنه اسـتكتب لعتبة نصه قلمين نقديين ــ كما سبق الذكر ــ  إلا أنه لم يطمئن عليها فأردفها بتوقيع من قلمه وقد أخذت بعدا أكاديميا بحثا استعرض فيها أقسام كتابه كما أبرز ما للعتبات النصية  من أهمية ،وإن كنا لم نجد إحالة من قبله لسبب انتخاب مصطلح )عتبات( ليعتلي عرش العنونة ، بالإضافة إلى توظيفه مصطلح )النص الموازي( ، و)الموازيات النصية( على غرار )عبد الرحيم العلام( في كتابه )الفوضى الممكنة ( ، يبدو أن )يوسف  الإدريسي( قد تجنب إشكالية المصطلح عن سابق رصد و ترصد خصوصا أنه وجه اهتمامه إلى عتبات النص في الثقافة العربية الإسلامية والتنظير الغربي لخطاب العتبات وأقصى تعامل النقد العربي مع هذا الحقل المعرفي.
  أحاط )الإدريسي( كتابة بتشكلٍ عتباتي مغر ٍ، هو ما ألفيناه من اهتمامٍ بعتبة )التصديرات Epigraphes (،التي استجلبها من سياقات مختلفة كان أولها لـ "التهانوي : )كشاف اصطلاحات الفنون( «الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض لأشياء قبل الشروع في المقصود ، يسميها قدماء الحكماء الرؤوس الثمانية ، أحدها الغرض (..) وثانيها المنفعة (..) وثالثها السمة (..) و رابعها المؤلف (..) و خامسها أنه من أي علم هو (..) و سادسها أنه من أية مرتبة هو (..) و سابعها القسمة(...)و ثامنها الأنحاء التعليمية (...)» وهو ما يعكس وعي الإدريسي -الذي يحسب له – بالشذرات المتفرعة من التراث العربي ، و)العتبة التصديرية( الثانية  مستجلبة من المتن الروائي « (...) آخر شيء يتم اختياره عادة هو العنوان ، ويمكن استنتاجه من السياق(..)» هذا ما يعكس سلطة المتن الروائي عند )الإدريسي( ؛ففي النهاية نحن ننطلق من النص الموازي إلى النص الرئيس و العكس ،و لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نسقط من حساباتنا أن العتبات وضعت بالأساس لخدمة النص أو كما يقول جيرار جينت »لا يوجد فيل من غير فيال ولا فيال من غير فيل»16 ، وقد نتفق مع )علي المتقي( في أن «قيمة العتبات تكمن في ما توحي به من احتمالات تثير في القارئ شهية القراءة وهذا يتحقق قبل قراءة نص الرواية « 17 ، إلا أننا نقول قد يتحقق ذلك – في اعتقادنا- على مستوى الجمهور الذي تغريه الأغلفة والعناوين لاقتناء المؤلف ولكن على مستوى القارئ فينبني بناء التأويل والدلالة على أساس حركة الذهاب والإياب من )النص إلى العتبة ( و)من العتبة إلى النص( والجمهور ليس بالضرورة هو قارئ النص الروائي ، مما يجعلنا نخالف )علي المتقي( في الجزء الثاني من مقولته « ينبغي قراءة صورة الغلاف بوصفها عتبة لها وظائف معينة باستقلال عن الرواية »18 ؛ذلك أن الوحدات الغرافيكية للغلاف تشتغل على بلاغة بصرية تغري باقتناء الرواية، لكن على مستوى التأويل لن نتمكن من الوصول إلى الدلالة إلا عبر الحركة السابقة الذكر(نحن ننطلق من البنية السطحية إلى البنية العميقة( ،وعلى ما يبدو لم يرض )علي المتقي( في مقاله )انطباعات حول عتبات النص ليوسف الإدريسي ( عن تحليل )يوسف الإدريسي( لبعض العتبات (المقتبسات ) فالمتقي يصر على مقاربة العتبات/ المقتبسات في ذاتها أولا ثم ربطها بسياقها الذي وضعت فيه والحق يقال إننا نرى الرؤية ذاتها التي رصدها )علي المتقي( ، فالمقتبسات تطرح إشكالية الكلام المقول سلفا فلا تنفك عتبات التصدير/المقتبسات تضعنا أمام المساءلة هل تحافظ هذه المقولات على دلالتها الأصلية أم نشأت لها دلالات أخرى بفضل التحويل والتهجير النصي الذي خضعت له. كما أن عبد الرحمن منيف لم يستحضر تلك المقتبسات من باب الترف النصي فقد وضعها بالأساس خدمة للنص وإن لم يتمكن )يوسف الإدريسي( من الحفر عميقا  في دلالتها وعلاقتها بالمتن ، فذلك لا يعني أن قراءتها انطلاقا من المتن الروائي تقيد التأويل والتحليل.
  ما نأخذه على )الإدريسي( هو اعتماده في مقاربة عتبة العنونة على ما صرح به )عبد الرحمن منيف( في أحد نصوصه الفوقية أو البعدية باصطلاح الإدريسي، في رأينا تلك العتبة تعكس صورة المؤلف القارئ لنصه –اعتمد على حوار لعبد الرحمن منيف منشور في بيان اليوم الثقافي ،عدد ، 39 مارس1992 – وبالضرورة فتلك )الحوارات( على أهميتها قيدت التأويلات التي كانت لتخلق لو اعتمد على تفضية )عتبة العنونة( انطلاقا من البنية المعجمية والتركيبة –وهو ما أنجزه- ثم البنية الدلالية الناتجة من علاقة العنوان بالنص دون الحاجة إلى قراءة منيف لنصه/الحوار، وعموما تبقى إستراتيجية ارتضاها الإدريسي في قراءة وتأويل عتبات النص ، ولا نلزمه بتصورنا على الإطلاق ، فالرواية «نص أدبي متخيل وليست نصا علميا تشفع له ضرورة العلم والالتزام بالمنطق، بأن يكون عنوانه مطابقا ، بل إن الرواية تؤثث عناوينها بالبلاغة، والإشراقات الشعرية ،كما تعمد إلى لعبة المراوغة و الإيهام»18.
في الختام لنا أن نقول:
 يبقى النص الموازي حقلا معرفيا جديرا بالاحتفال النقدي لكن في غمرة هذا الاحتفال ينبغي أن نحذر منه فقد تأخذنا العتبات النصية إلى مزالق نقدية تعتيمية ويبقى كتاب الدكتور يوسف الإدريسي موطن قراءة ومناسبة احتفاء على حد قول جمال بوطيب
هوامش الدراسة :
1ــ بسام قطوس : سيمياء العنوان، ط1 ،وزارة الثقافة، الأردن ،2001 ، ص6
2
 ــ نبيل منصر : الخطاب الموازي للقصيدة العربية، ط1، درا توبقال، المغرب ، 2007 ، ص6
3
ــ يوسف الإدريسي : عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر،   ط1 منشورات مقاربات ، المغرب ،2008 ،ص9/10 .
4
 ــ المصدر نفسه : ص7 .
5 
 ــ المصدر نفسه : ص10.
6   ــ المصدر نفسه : الصفحة نفسها.
*Gérard genette Seuils , éditions du seuil, paris, p376
 7 ــ المصدر نفسه : ص11
 8 ـــ المصدر نفسه :الصفحة نفسها
9
 ــ المصدر نفسه: الصفحة نفسها
10
 ــ المصدر نفسه : ص11
 11 ــ المصدر نفسه :ص12
12
 ــ المصدر نفسه: ص12
 13 ــ المصدر نفسه : ص12
14
 ــ المصدر نفسه : ص13
15
 ــ جروان السابق : معجم اللغات انجليزي –فرنسي –عربي ، ط1 ،درا سابق للنشر، بيروت ، دس ، ص336
16 Gérard genette seuil ,p376

17  ــ علي المتقي : انطباعات حول عتبات النص ليوسف الإدريسي، متاح على الشبكة ، مدونة علي المتقي ،09 أفريل 2009، moutaki.jeeran.com
18
 ـــ لمرجع نفسه : متاح على الشبكة moutaki.jeeran.com
19
 ــ شعيب حليفي ك هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل ، ط1 ، درا الثقافة ، الدار البيضاء /المغرب، 2005 ، ص33

****

قراءة أولية في كتاب د/يوسف الإدريسي

التخييل والشعر، حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية


ذ/ هشام الدركاوي




« تأثير أديب أو مفكر من أمة ما، أو لغة ما، في أديب أو مفكر أو مجموعة من الأدباء والمفكرين من أمة أخرى أو لغة أخرى؛ موضوع يقع من اهتمامات الأدب المقارن في الصميم»([1]). 

في هذا الإطار الذي حدده العلامة "أمجد الطرابلسي" يندرج كتاب الدكتور "مولاي يوسف الإدريسي" (التخييل والشعر؛ حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية) الصادر عن منشورات مقاربات في طبعته الأولى سنة 2008. في حجم متوسط، يقع في حدود ما يقارب 160 صفحة. تتوزعها أربعة فصول، تضم بدورها – بين لفائفها وطواياها – مباحث تركز مسعاها وتمحور وكدها حول مقاربة المصطلحات والمفاهيم والوقوف عند أبعادها الدلالية والتداولية المختلفة، يشكل مصطلح "التخييل" قطب الرحى فيها باعتباره مصطلحا قمينا بالبحث والدراسة والتقصي، لما حام حوله من عي في التفسير وقصور في التدليل وتباين في الحضور وخلط في المعنى، فهو تارة يفهم على أنه تشبيه أو تمثيل أو تغيير، وهو خلط نابع من التأثر العميق بالمباحث البلاغية الناشئة آنئذ([2]). 
يستمد هذا الكتاب شرعية العلمية والأكاديمية من كونه امتداداً للمسار العلمي الذي خاض الباحث مولاي يوسف غماره في بحثه لنيل شهادة الدكتوراه والموسوم بعنوان "مفهوم التخييل في التفكير البلاغي والنقدي عند العرب". 
يقول الدكتور "عباس ارحيلة" بهذا الصدد: « إن د.م يوسف الإدريسي يؤسس لمشروع علمي مجاله التخييل في الفكر الإنساني عامة وفي الدراسات العربية قديمها وحديثها خاصة؛ وذلك انطلاقا من أطروحته الجامعية وقد بدأ بالكشف عن مشروعه من خلال نشره لكتابه الأول في هذا المشروع: "الخيال والمتخيل في الفلسفة والنقد الحديثين ويأتي اليوم كتابه هذا، لوضع اللبنة الثانية في تشييد مشروعه العلمي هذا »([3]). 
وبتأملنا للمنجزات الفكرية للأستاذ م. الإدريسي التي جعلت من التخييل وقوى الإدراك الشعري ديدنها، نستشف أنها سيرورة علمية وكدها التخييل في كل تجلياته الفلسفية والجمالية، انطلاقا من الأسطغرافيات الأرسطية والفلسفية والترجمات العربية ومن هنا يتأكد لنا بجلاء أن هذه المشاريع العلمية تندرج ضمن مجال البحوث النقدية المقارنة، كما قال د. أمجد الطرابلسي. 
ومما يزيد ذلك تأكيدا أن أغلب المصطلحات التي قاربها المؤلف في كتابه (التخييل، الخيال، المحاكاة...) نابعة من عمق الثقافة اليونانية الأرسطية، وأن ما فعله الفلاسفة والمفكرون العرب، لا يخرج على أن يكون محاولة لفهمها وتأصيلها وتوظيفها لفهم الشعر. هذا فضلا على أننا من خلال الوقوف عند العنوان باعتباره عتبة أولى ذات وظيفة اختزالية واستشرافية للمتن، يتبدى لنا جليا أن الباحث ركز مسعاه، وحدد مبتغاه في محاولة النفاذ إلى عمق الفكر العربي الإسلامي، معتمدا ترسانة من أدوات الحفر العلمية، القائمة على التمحيص والدقة والمقارنة والتتبع، قصد معرفة المعلم الثاني بعد أرسطو الذي فهم التخييل فهما صائبا وعمل على تكييفه ومحددات وخصائص التراث العربي الإسلامي، وذلك مغبة التكريس للأزمة التي عاشها هذا المصطلح. 
ولا غرو أنه إذا ربطنا هذا المنجز العلمي بأطروحة مولاي يوسف الجامعية «مفهوم التخييل في التفكير البلاغي والنقدي عند العرب». نجد أنفسنا أمام تصاد عميق الدلالة وبعيد غور الإيحاء مع أطروحة ا الدكتور "عباس ارحيلة" « الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري » والتي سعى فيها إلى نسف وتفكيك آراء المستشرقين وآراء النقاد العرب المتهافتين على النظرة الاستشراقية، القائلة بقيام أسس الثقافة العربية، خاصة النقد والبلاغة على مرتكزات أفكار المعلم الأول (أرسطو) في كتابيه الشعر والخطابة. 
وإذا كان الدكتور ارحيلة قد قارب مسألة التأثير الفكري في أبعادها الكبرى، منقبا وباحثا عن ذلك في المنجز النصي (النقدي والبلاغي) لكل مرحلة على حدة حتى نهاية القرن الثامن الهجري، فإن الدكتور الإدريسي وقف عند مصطلح وحيد ومن تم تتبعه وتتبع تجليات حضوره في الفكر العربي وما صاحبه (التخييل) من التباسات في الفهم وقصور في التحديد وتدبدب في النسبة، (أي مستعمله الأول عند العرب) «لأن الدراسات التي تناولت مفهوم التخييل عند الفلاسفة المسلمين، اعتبر أصحابها الفرابي أول من استعمل كلمة "تخييل" في شرحه لكتاب الشعر لأرسطو؛ بل ومنهم من اعتبر ابن سينا (428 هـ) أول من وظف المفهوم؛ وترتب على هذا القول أن صار مفهوم التخييل مرادفا للمحاكاة، فاختلط المفهومان لديهم »([4]). 
ومما يعطي للكتاب (كتاب التخييل والشعر) جدته وتميزه، وعي صاحبه مند الوهلة الأولى بتلك الالتباسات والتخرصات التي صاحبت المصطلحات الأرسطية، إثر نفاذها إلى عمق التفكير العربي في مختلف تمظهراته، ومرد ذلك إلى غياب الوعي الاصطلاحي آنئذ، الذي يساعدهم في فهم كتب أرسطو أثناء ترجمتها([5]).علاوة على تركيزه على الأبعاد النفسية للتخييل ومدى إذكائها لجذوة الشعرية، فالتخييل في نظر الإدريسي تفاعل جمالي بين الذات المرسلة للقول والذات المتقبلة له([6]). إنه من هذا المنطلق خصيصة من خصيصات اللغة الشعرية من جهة، وسمة من سمات التواصل الجمالي التفاعلي من جهة ثانية بين المرسل والمتلقي. 
هذا فضلا عن كون المؤلف لم يكتف بالوقوف عند الكتب النقدية المتأخرة التي تناولت مفهوم التخييل والتي تتوزع في نظره بين دراسات مؤسسة (محمد شكري عياد وجابر عصفور) وأخرى تابعة (عصام قصبجي، مصطفى الجوزو، ألفت كمال الروبي، عاطف جودة نصر...) ([7])، بل تكبد عناء الرجوع إلى المظان الأصلية التي تحدثت عن المصطلح (التخييل) إما تصريحا أو تلميحا، وهنا يتضح الجهد المبذول، لما تكتسيه عملية الحفر هذه من نصب وعناء، ترجع بالأساس إلى صعوبة التعامل مع تلك المصادر التي تنماز ببذاخة لغتها، وتداخل مجالاتها الفكرية، وعناء فهم اصطلاحاتها، التي منها ما هو نابع من عمق التراث، ومنها ما هو دخيل ومعرب. 
ما أحوجنا لمثل هذه الدراسات المصطلحية التي من شأنها إضاءة سدف بعض المصطلحات النقدية والبلاغية ذات الحمولة الدلالية القوية، كما هو حال كثير من المصطلحات المترجمة والدخيلة. 

الهوامش: 
________________________________________ 
[1] - تصدير العلامة د. أمجد الطرابلسي لكتاب "الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين: د. عباس ارحيلة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1999، ص 11. 
[2] - د. يوسف الإدريسي: التخييل والشعر، حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، منشورات مقاربات، آسفي، ط 1، 2008، ص 153. 
[3] - د. يوسف الإدريسي، المرجع مذكور، ص 113 
[4] - نفسه، ص 8. 
[5] - نفسه، ص 15. 
[6] - ص 15. 
[7] - ص 17

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق