الخميس، 9 أبريل 2015

مفهوم التخييل في النقد والبلاغة العربيين الأصول... والامتدادات



يعد التفكير في كيفية تشكل "المتخيل الشعري" واشتغاله أحد أبرز الإشكالات النظرية التي صاحبت الخطاب النقدي حول الأدب، ويندرج طرحه في سيرورة هذا الأخير ضمن الوعي بقيمة المصدر الخيالي للشعـر وفاعليته التخييلية ووظيفتيه النفسية والجمالية، كما ينم عن التحول النوعي الهام في طرائق الاقتراب من الظاهرة الإبداعية ومساءلتها.
فبعد تاريخ عريض من المقاربة الغيبية للشعر والنظر إليه بوصفه إلهاما لقوى خارجية (شياطين أو جن أو ربات) توحي به إلى الشاعر مصطفية إياه دون بقية الناس، وبعد تاريخ طويل من المدارسة المنغلقة على كينونته النصية والمقتصرة على تحليل تمظهراتها الشكلية وتعبيراتها البلاغية، والتي كانت تعتبره مجرد انتظام بنيات لغوية ودلالية وتركيبية ومحسنات بديعية في قالب إيقاعي خاص، انبثقت –بعد هذا وذاك- رؤية جديدة في المقاربة والاشتغال تقف عنده باعتباره تشكلا فنيا يرتكز على الخيال ويدور في فلكه بالدرجة الأولى، وأخذت تتعامل معه –من ثمة- في إطار العلاقات والمكونات الداخلية والخارجية، والبواعث الذاتية والموضوعية التي تشيده وتوجهه، والتي يعد فعل التخيل والذات المتخيلة مبتدأها ومنتهاها.


معنى ذلك، أن النظر في الشعر بوصفه نتاجا متخيلا قد شكل لحظة متقدمة وعلامة نضج فارقة في سياق مقارباته، ولا أدل على ذلك من اتجاه الخطاب البلاغي والنقدي إلى البحث في طرائق تمثل الشاعر للعالم ونظمه، وإعادة تمثيله وتشكيله لهما اعتمادا على حركية مخيلته- في نص شعري لا يقف عند حدود إنتاج تجربة لغوية وإدراكية جميلة وجديدة، بل ينشد كذلك النفاذ إلى مُخَيِّلة متلقيه ليحركها، وليؤثر فيه بما يثير فيها من إيحاءات فنية وصور تخييلية.
وقد شكل مفهوم التخييل أحد أبرز الآليات النظرية والأدوات الإجرائية الدالة على ارتقاء الفكر البلاغي والنقدي عند العرب وتطور طرائق نظره في النص الشعري ومقاربته لمستوياته الجمالية وخصائصه الأسلوبية؛ فقد مكن استثماره والاشتغال به من كشف كثير من خبايا الإنتاج الشعري وأسراره الدقيقة التي ظلت غامضة، ليس ما اتصل منها فحسب بمختلف البنيات اللغوية والإيقاعية والخصائص الإيحائية للقصيدة الشعرية، أو ما تعلق منها بآليات تشكلها وصيغ تفاعلها مع الظواهر المادية والمعطيات التعبيرية المتداولة، بل وما ارتبط منها أيضا برصد طرق اشتغال مدارك الشاعر، وتحديد طبيعة الحركة الذهنية لقواه الخيالية وتتبع مختلف اللحظات الإبداعية والحالات النفسية والوجدانية التي تسبق تشكيله لها وتتحكم فيه.
ويلاحظ أن استعمال مفهوم التخييل بالمصطلح الدال عليه قـد شاع عند العرب منذ القرن الهجري الرابع، فعرف منذئذ توظيفات متعددة ومتفاوتة في مختلف الحقول المعرفية العربية القديمة؛ ففضلا عن كتب الفلسفة والنفس والموسيقى، ورد مصطلح التخييل في بعض تفاسيـر القرآن الكريم ومقدمات الدواوين الشعرية، وفي كثيـر من كتب اللغة والبلاغة والنقد.
وإذا كان ذلك يعني أنه مصطلح مشترك بين العديد من المجالات العلمية، فإن تعدد توظيفاته واختلافها -حسب السياقات المعرفية التي ورد فيها، وبالنظر إلى طبيعة التحديدات الدلالية التي أعطاها له كل واحد من المشتغلين به- أمر يجعل الحاجة إلى متابعة تعريفاته، وبيان الفروق الاصطلاحية والإجرائية التي ميزت توظيفاته في كل مجال معرفي على حدة -وعبر أبرز لحظات تطور الفكر البلاغي والنقدي عند العرب- مطلبا علميا ضروريا ومبررا منهجيا كافيا لبحثه.
ومما يضاعف الحاجة العلمية إلى إعادة بحثه أن شيوعه الواسع في الفلسفة الإسلامية دفع العديد من الباحثين المحدثين إلى اعتباره وليدا شرعيا خالصا لأصولها ومباحثها، فرأى بعضهم أن أبا نصر الفارابي (ت 339هـ) هو "أول" من استخدمه[1]، بينما ذهب آخرون إلى أن أبا علي بن سينا (ت428 هـ) هو "أول" من وضعه[2].
وبغض النظر عن مدى سلامة الموقف العلمي الذي ينشغل بالبحث عن البدايات الأولى والمساهمات الذاتية والفردية في ظهور الأنساق النظرية والمفهومية دون ربط ذلك بالشروط المعرفية لنشأتها، والسياقات الفكرية والمذهبية لاشتغالها، يلاحظ أن خطورة الاعتقاد السابق تتجلى في كونه يتخطى إسهامات أخرى سبقت الفارابي إلى تشييد مصطلح التخييل ونحته، أو على الأقل تضمنت الإرهاصات الأولى الدالة على بداية نشأته، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر منه، إذ يقصر نشأة المصطلح وتبلوره على السياق الفلسفي وحده، ولا يقيم أي اعتبار لسياقات معرفية أخرى وأزمنة ثقافية سابقة قد تكون أسهمت في تشكيله، إن لم يكن قد شكل بداية داخلها.
ولذلك، فالدراسات الحديثة التي تناولت الموضوع اتفقت على أن المواقف العربية الأولى من الظاهرة الخيالية لم تبلور تصورا مفهوميا ذا أهمية نظرية، لأنها كانت محدودة ولم تخرج عن إطار الدلالات المعجمية العادية التي تشير إلى الطيف أو الظل[3]. وأجمعت –تبعا لذلك- على أن الاهتمام بالخيال ومعالجة قضاياه الإدراكية والإبداعية لدى العرب إنما تم في ضوء تأثرهم بالمذاهب الفلسفية والنفسية اليونانية[4].
وإذا كان هذا الحكم قد أفاد في الكشف عن حقيقة مفهوم التخييل عند البلاغيين المتأثرين بالفلاسفة المسلمين، وخاصة حازم القرطاجني (ت684هـ)، فإنه قد حملهم على إرجاع  تصورات كل البلاغيين والنقاد لهذا المفهوم إلى "أصولها" اليونانية، مما حال دون إدراك الأسس النظرية والخلفيات المعرفية التي يقوم عليها عند البلاغيين الذين لم يتأثروا بالفلسفة، وخاصة عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) .
ولما لم يجد الباحثون المحدثون تفسيرا لسبب اختلاف تصور الجرجاني للتخييل عن تصور القرطاجني خلصوا إلى أن الجرجاني كان مضطربا في  توظيفه له[5]، وأن هذا المفهوم بلغ أقصى درجات القوة والوضوح مع القرطاجني[6]. والسـؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف "عجز" عبد القاهر الجرجاني –وهو المشهود له بالذكاء العملي اللامع- عن صوغ تصور واضح ودقيق للتخييل مثل حازم القرطاجني بالرغم من "أنهما نهلا معا" من المرجعيات النظرية والمعرفية ذاتها، لاسيما تلك المتصلة بالتصورات الفلسفية للتخييل ؟!
وأدى تواتر التخييل والمحاكاة في التراث الفلسفي والبلاغي وترادفهما في بعض السياقات مع الأنواع البلاغية إلى الاعتقاد أنها أسماء لمسمى واحد، وأن التشبيه هو الفلك الذي يدور فيه مصطلحا التخييل والمحاكاة[7].
ولا شك أن هذا الرأي يركز على البعد البلاغي لمصطلح التخييل وصنوه المحاكاة، ويغفل الأبعاد الأخرى التي يقوم عليها، لا سيما تلك التي المتعلقة بالمنطق والمباحث النفسية والموسيقية عند البلاغيين المتأثرين بالفلسفة، الذين لا يمكن الإحاطة بتصوراتهم للتخييل على نحو دقيق وشامل دون الوعي بالإطارات النظرية والمعرفية التي صيغت انطلاقا منها.  
وقد كان الوعي بوجود فروق دلالية ومرجعية بين مصطلحي المحاكاة والتخييل وراء فصل مصطفى الجوزو بينهما، إذ خص كل واحد منهما بفصل مستقل، وشدد على أن المحاكاة مصطلح يوناني أصّله أفلاطون (ت347 ق.م) وأرسطو (ت322 ق.مونقله الفلاسفة المسلمون إلى البلاغة العربية، وأخذه عنهم القرطاجني وطبقه على الشعر العربي؛ أما التخييل، ففي منظـوره فكرة « هي في الحق بنت العقل العربي، ولا تشبه خؤولتها إلا في ملامح قليلة»[8]. وقد كان يحتاج هذا الرأي –بالنظر إلى جدته وفرادته- إلى نصوص صريحة وشواهد واضحة  لتأكيده، ويبـدو أن عدم الوقوف عندها هو ما دفع صاحبه إلى التخلي عنه، بل ونقضه؛ إذ سرعان ما استسلم للأحكام السابقة، فرأى أن الفارابي هو أول من استعمل مصطلح التخييل[9]! وأقر في الأخير أنه « وليد فكرة  المحاكاة»[10]، ومن ثم فهو يوناني المصدر[11]!
ولم تخرج دراسة عبد الحميد جيدة: التخييل والمحاكاة في التراث الفلسفي والبلاغي عن نطاق الأحكام والتصورات والنتائج التي سطرتها الأبحاث السابقة، فقد ظل مترددا في تحديد أصل مصطلح التخييل وبيان طبيعة علاقته بالمحاكاة[12]، ولم يستطع الحسم في ما إذا كان توظيف عبد القاهر الجرجانـي للمفهوم يدل على أن «الثقافة اليونانية أصبحت جزءا من تفكيره»[13]، أو أنه « كان يتأرجح بين الأصالة والثقافة اليونانية»[14]! ويتجلى اضطرابه وتناقضه بجلاء في دراسته لمفهوم التخييل عند القرطاجني، إذ لم يستطع بيان علاقته بالمحاكاة[15]، ولم يبرز جوانبه الأصيلة الناشئة في حضن "البيئة الإسلامية" ليميزها عن جوانبه الدخيلة الناتجة عن التفاعل مع "الثقافة اليونانية". ومن ثمة لم يبين: كيف جمع القرطاجني بين هذين الأساسين (العربي واليوناني) وصاغ منهما تصورا متكاملا لمفهوم التخييل؟!
ووقفت الدراسات الحديثة المهتمة بموضوع التخييل عند حازم القرطاجني باعتباره "آخر" بلاغي وظف مصطلح التخييل، ورأت تبعا لذلك أنه دخل بعده دائرة الإهمال والتراجع، في حين أكد علال الغازي (ت 2006 م) أن هذا المفهوم  ظل حيا وعرف تطورا نظريا بارزا على يد القاسم السجلماسي (ت حوالي 730هـ)؛ إذ دخل المجال اللغوي الأسلوبي المباشر وأصبح "التخييل" و"التخيل" و"الخيال" وما اشتق من ذلك جزءا من النظرية البلاغية–النقدية بفضله[16] ! وقد كان إعجاب علال الغازي بتركيز السجلماسي على الأسس التخييلية للأساليب البلاغية وراء إصداره لهذا الحكم. وبغض النظر عن أنه يغفل الدور التأصيلي الهام الذي قام به الفلاسفة المسلمون والبلاغيون المتأثرون بهم والمتمثل في ربطهم المحاكاة والتخييل بالأنواع البلاغية، يلاحظ أنه أعلى من قيمة مساهمة السجلماسي معتبرا إياها أرقى ما أمكن للثقافة العربية الإسلامية أن تقدمه، فلم يشطب بذلك إسهام القرطاجني فحسب، وإنما ألغى إمكانية وجود مداخلات لاحقة تغني المفهوم وتطوره.
وترتيبا على ذلك، يتضح أن الدراسات السابقة سلكت سبيلا واحدا في دراسة مفهوم التخييل وتتبعه عند الفلاسفة والنقاد والبلاغيين العرب، وحكمتها رؤية متماثلة في معرض استقصاء توظيفاته ومناقشة قضاياه وإشكالاته؛ إذ اتفق الكل على أن المصطلح وضعه الفارابي وأصله وأغنى مضامينه ابن سينا وابن رشد (ت 595 هـ)، ووظفه تـوظيفين بـارزين الجرجاني والقرطاجني ثم السجلماسي حسب رأي الغازي، ولا توجد خارج هذا الإطار- في تصور أصحابها- أية إضافة ذات قيمة أو أهمية.
وبالرغم من قيمة بعض النتائج والخلاصات التي انتهت إليها تلك الأبحاث في معرض دراستها لمفهوم التخييل، والتي مكنت من كشف جوانب هامة من وضعه النظري والمنهجي والتطبيقي لدى الفلاسفة المسلمين والبلاغيين المتأثرين بهم، إلا أنها تظل في رأينا محدودة، ولا تمكن من فهم كثير من القضايا والإشكالات التي تطرحها تحديداته المتنوعة وتوظيفاته المختلفة في شتى الحقول المعرفية.
فهل كان الفارابي أول من وضع مصطلح التخييل؟ وهل شكله قصد ملئ فراغ نظري وتداولي (لغوي) في الثقافة العربية الإسلامية واعتمادا على جهد شخصي فريد؟ أم أنه استعار كلمة "تخييل" من الجهود اللغوية والبلاغية والفلسفية المبكرة، فنقلها من حقولها الدلالية والمعرفية الأولى إلى مجال الشعر؟ وهل تم فعلا نحت مصطلح التخييل لتفسير معنى المحاكاة "الأرسطية" أم للدلالة على تصور آخر لم يكن بارزا على نحو واضح في مفهوم المحاكاة، وهو تصور أمكن إدراكه من مرجعيات نظرية مغايرة أو من البيئات المعرفية الدخيلة أو الأصيلة منذ القرن الثاني وإلى نهاية القرن الثالث للهجرة؟ وكيف يمكن تفسير "اضطراب" عبد القاهر الجرجاني في بيان علاقة التخييل بالأنواع البلاغية ووضوح ذلك عند حازم القرطاجني بالرغم من أنهما ينطلقان -كما يعتقد البعض- من "أصول فلسفية" واحدة؟ ولماذا أهمل الجرجاني مصطلح المحاكاة واكتفى بالتخييل مع أن المصطلحين ظلا مقترنين عند الفلاسفة المسلمين والبلاغيين المتأثرين بهم؟ هل يعود الأمر إلى اختلاف في المرجعية النظرية أم أنه لا يعدو أن يكون إهمالا مقصودا؟ ثم هل بدأ فعلا توظيف مصطلح التخييل مع الفارابي وتوقف تطوره مع القرطاجني والسجلماسي؟ أم أن بداية تشكله وتوظيفه تعود إلى ما قبل الفارابي وأنه واصل تطوره بعد السجلماسي؟
لا شك أن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تقتضي إعادة بحث مفهوم  التخييل بتصور جديد يتجاوز الرؤية الانتقائية والتحليل التجزيئي اللذين ميزا تعامل الدراسات السابقة معه، فيرصد مجمل لحظات تشكله ويتابع مختلف مستويات اشتغاله سواء في النصوص المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية أو في المباحث النقدية والبلاغية والفلسفية والنفسية والموسيقية ونحوها، وينظر إليه من ثمة ككيان حي يحكمه قانون النشأة والتطور والنضج والامتداد الذي يسري على جميع الكائنات الحية؛ لأن « المفهوم كيان يتولد. وحالما يتولد يشرع في الترحال فيمتلك ككل كيان تاريخا ذاتيا. وهذا يعني أننا مطالبون بالرحيل تغلغلا داخل هذا التاريخ، وهو، حين يتولد، تعلق بجسمه آن تولده وابتعاده عن منابته، علامات خفية تظل تومئ على نحو مستتر إلى تلك المنابت. فإن هي حوصرت يمكن أن تضع الدارس على عتبات الإحاطة بتلك المنابت المحجبة»[17].
إن غاية هذا الكتاب وضع تأريخ ذاتي لمفهوم التخييل، يتابع مختلف لحظات تشكله واشتغاله وامتداده عبر مجمل الخطابات المعرفية وأجهزتها النظرية وأدواتها المنهجية والتطبيقية، ولذلك سيتم التمييز بين أربع لحظات في كينونته الاصطلاحيـة، وهي: 
أولا:  لحظة النشـأة ؛
ثانيا: لحظة التأصيل؛
ثالثا: لحظة التكامل النظري والمنهجي؛
رابعا: لحظة الامتـداد؛
تشير اللحظة الأولى إلى مجموع الإرهاصات الدالة على بداية تشكل مفهوم التخييل في الثقافة العربية الإسلامية سواء في النصوص العربية الأصيلة كالشعر واللغة والقرآن الكريم والحديث الشريف، أو في النصوص الفلسفية العربية الأولى التي ترجمت علوم اليونان. وتتجلى أهمية هذه اللحظة في كونها تومئ إلى مختلف الأبعاد الدلالية والخصائص الوظيفية التي ترسبت في ذاكرة مشتقات مادة (خيل) عبر لحظات تداولها في اللسان العربي، كما أنها تكشف طبيعة المضامين الدلالية والنظرية التي أضافتها المعارف الدخيلة إلى تلك المشتقات وميزت استعمالها لها، وسيمكن ذلك من التمييز بين حقلين دلاليين لتشكل مفهوم التخييل واشتغاله، يمتلك كل منهما خصائصه الدلالية وسياقاته المعرفية، وسيفيد من ثمة في ضبط الأصول الحقيقية التي قام عليها توظيف المفهوم عند البلاغيين والنقاد المتأثرين بالفلسفة وغير المتأثرين بها.
وتشير اللحظة الثانية إلى مرحلة استثمار المحتويات الدلالية والتصورات النظرية التي انطوت عليها كلمات الخيال والتخيل والتخييل في نصوص اللحظة السابقة، وإعادة صياغتها قصد تأصيل المفهوم؛ وسيتم التمييز في هذه اللحظة بين مستويين لتأصيل المفهوم: أحدهما طور استعمال النصوص العربية الأصيلة لكلمات خيال وتخيل وتخييل ونقلها إلى مجال البلاغة والنقد، فأنتج مفهوما بيانيا أصيلا للتخييل؛ والآخر استلهم المحتويات الدلالية والخصائص الوظيفية لتلك الكلمات في النصوص الفلسفية العربية الأولى، واستثمرها في مناقشة قضايا التخييل الشعري وتحديد خصائصه الجمالية والأسلوبية، فصاغ من ذلك مفهوما فلسفيا للتخييل.
أما اللحظة الثالثة فتتابع مفهوم التخييل في تكامله النظري والمنهجي والتطبيقي وانتقاله من مصطلح لتحليل ظواهر وبنيات أسلوبية وتركيبية جزئية إلى أداة إجرائية للمقاربة الكلية العميقة والنسقية لمختلف المكونات المتصلة بالعملية الشعرية والمحددة لبنياتها.
أما اللحظة الرابعة فترصد طرق استثمار البلاغيين المتأخرين للتصورات السابقة للتخييل التي أصلت المفهوم وارتقت به إلى درجة التكامل النظري والمنهجي، كما تحلل التحولات الدلالية والاصطلاحية التي طرأت عليه عند البلاغيين المتأخرين وتقارنها بما كان عليه الأمر عند البلاغيين المتقدمين لتبين إن استمر تطوره أم أن وضعه النظري والمنهجي والتطبيقي بدأ يتراجع ويضعف.
 وبغاية بناء الكيان المفهومي لمصطلح التخييل ستعتمد هذه الدراسة على مقتضيات المنهج الحـفـري التاريخـي، إذ ستستكشف الأنوية الدلالية المخبوءة في أعماق ذاكرة الاستعمالات الأولى لكلمة تخييل ولمختلف المشتقات المرتبطة بها، وستبرز المرجعيات المعرفية والأصول النظرية التي تبلور ضمنها، وستتابع في الوقت نفسه، منظومة الترابطات الوظيفية بين سياقات توظيف ذلك المفهوم في مختلف تشكلات الخطاب لتبرز تحولاته النظرية والمنهجية والتطبيقية وتضبط علائقها الواضحة والخفية.
وإذا كانت ضوابط هذا المنهج توجب التخلي عن وهم البحث عن الدلالات الأصلية للمفهوم، والتركيز بدل ذلك على الدلالات المبكرة و"الأولى" التي ترسبت في سجله التداولي وأرخت لبداية تكونه، فإنها تقتضي بالمثل التعامل مع تعدده الدلالي وغنى توظيفاته الإجرائية ليس باعتبارها علامات على تشوش المفهوم واضطراب تحديداته، وإنما بوصفها دليلا على أن جوهره خصب وغني ومنفتح...بل ومستعصي على الضبط والتحديد...
واستجابة لهذه المقتضيات المنهجية التي يشكل الوضوح والدقة بعض مطامحها، ستتوزع هذه الدراسة إلى أربعة فصول:
سيختص الفصل الأول بتتبع لحظات تشكل مفهوم التخييل في بواكير التفكير الأدبي واللغوي والفلسفي عند العرب، وسينقسم هذا الفصل إلى مبحثين: يتابع المبحث الأول التصورات العربية الأولى للظاهرة الخيالية التي وردت في النصوص المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية (القرآن والحديث والشعر)، والتي تنم عن تبلور وعي مبكر بماهية "الخيال" وطبيعته الإدراكية ووظائفه النفسية، وسيتم التركيز على العناصر التي تمثل مهادا نظريا لتفكير البلاغيين والنقاد اللاحقين في العملية التخييلية. وسيتابع هذا المبحث أيضا التوظيفات الأولى لكلمة تخييل وللمشتقات الأخرى المتصلة بها في النصوص البلاغية والنقدية الأولى والتي تدل على بداية تطورها الدلالي ونضجها الاصطلاحي؛ ويرصد المبحث الثاني الإرهاصات الأولى الدالة على بداية تشكل مفهوم التخييل في السياق الفلسفي من خلال الوقوف عند النقول العربية المبكرة للفلسفة اليونانية، والبحث في الخصائص الدلالية والوظيفية التي ميزت استعمال كلمات خيال وتخيل وتخييل وغيرها من المشتقات الأخرى فيها، وبغاية بيان طبيعة إسهام النقلة الأوائل للتراث اليوناني في تشكل مفهوم التخييل، سيقف المبحث أولا عند تصوري أفلاطون وأرسطو للخيال والمحاكاة الشعرية لبيان مرتكزات تصورهما وفلسفتها، ومتابعة مصطلحاتهما الموظفة في هذا الإطار بغاية استكشاف طرائق نقل تلك التصورات وترجمة المصطلحات المرتبطة بها إلى العربية، وفي أفق إبراز كيفية تشكل مفهوم التخييل في السياق الفلسفي.
ويتابع الفصل الثاني التأصيل الفلسفي لمفهوم التخييل مبرزا استثمار الفلاسفة المسلمين للتصورات والتحديدات النفسية والجمالية التي قدمها النقلة الأوائل للفلسفة اليونانية والتي نبهوا فيها إلى قيمة التخييل النفسية والشعرية، من خلال استعمال مصطلحات الخيال والتخييل لتقريب التصورات والمفاهيم اليونانية، وسيبرز هذا الفصل كيفية استفادة أولئك الفلاسفة من نقول السريان وإسهامهم في تطوير مفهوم التخييل وإغنائه بأبعاد منهجية ومضامين نظرية جديدة...ومطورة...وذلك من خلال مبحثين: يقف الأول عند تصورهم لدور القوى الخيالية في العملية الإبداعية؛ ويقف الثاني عند انتقالهم بالمفهوم من بعده النفسي إلى مجاله الجمالي، وإبرازهم طبيعة العلاقة بين التخييل والشعر.
ويتناول الفصل الثالث التأصيل البياني لمفهوم التخييل، ويتوزع هذا الفصل إلى مبحثين: يختص المبحث الأول بدراسة تأصيل عبد القاهر الجرجاني لمفهوم التخييل من خلال استثمار التصورات والتحديدات العربية الأولى التي ترسبت في ذاكرة مشتقات مادة (خيل)، وسيبرز هذا المبحث ذلك من خلال تتبع تحديده لماهية التخييل ولوظيفتيه النفسية والجمالية، وتحليله لعلاقة التخييل بالأنواع البلاغية (التشبيه والاستعارة...) وبقضية الصدق والكذب في الشعر، وكذا تصوره للمراتب الفنية للتخاييل الشعـرية ومستوياتها الإيحائية والتأثيرية؛ ويعنى المبحث الثاني بتتبع امتدادات مفهوم الجرجاني للتخييل عند البلاغيين المتأخرين، وذلك على مستوى تصورهم للخصائص التمثيلية للتخييل ووظائفه الجمالية.
ويعنى الفصل الرابع والأخير بتتبع تكامل مفهوم التخييل في البلاغة المعضودة بالمنطق، وسيبرز هذا الفصل مستويات استلهام البلاغيين المتأثرين بالفلسفة لتحديدات الفلاسفة المسلمين للتخييل وتوظيفاتهم له، ومظاهر تشبعهم بجذوره البيانية العربية "الأصيلة". وينقسم هذا الفصل إلى مبحثين رئيسين: يتناول الأول تكامل مفهوم التخييل عند حازم القرطاجني، والذي يتجلى في صياغته لتصور نظري شامل ودقيق يحيط بمختلف عناصر الخطاب الشعري ومستويات إنتاجه وتلقيه. وسيبرز هذا المبحث ذلك من خلال تناول حده للتخييل وتصوره لصلة هذا المفهوم بمصطلح المحاكاة والأنواع البلاغية، ولطبيعة مضامينه التمثيلية وعلاقتها بالمضامين الحسية والتجريدية؛ وتصوره أيضا لمستويات تخلق التخييلات في ذهن الشاعر وطرق وقوعها في نفس المتلقي، ونوع علاقة التخييل بالخطاب الشعري؛ أما المبحث الثاني فسيتابع امتدادات المفهوم الفلسفي للتخييل بعد حازم القرطاجني، وسيبرز طبيعة توظيف المفهوم بعد حازم، ونوع القضايا والتصورات التي ركز عليها البلاغيون الذين اشتغلوا به، ليبين في الأخير إن استمر تطوره ونضجه، أم أنه بدأ يتراجع ويفقد شموله النظري وقوته الإجرائية.
وفي الأخير سيذيل هذا الكتاب بخاتمة تبرز أهم الخلاصات والنتائج التي انتهت إليها عملية تتبع مفهوم التخييل منذ بدايات تشكله في الفكر البلاغي  والنقدي والفلسفي عند العرب إلى امتدادات تلك التوظيفات عند المتأخرين.
ولم يكن تتبع مفهوم التخييل بالطريقة التي اعتمدتها هذه الدراسة أمرا يسيرا؛ فقد اعترضتها صعوبات جمة يتعلق جانب منها بطبيعة الموضوع المدروس، ويتعلق الجانب الآخر بمنهج الدراسة المتبع.
فالموضوع يمس جزءا هاما من النشاط الباطني للنفس الإنسانية يتميز بالغموض ويستعصي على الضبط والتحديد نظرا لجوهره الحركي المنفلت والمتغير على الدوام. وبالرغم من ذلك فهو ينشد الإحاطة بتجلياته الذهنية والإدراكية، وفحص آليات تحليل الخطاب البلاغي والنقدي والفلسفي لتعبيراته الجمالية، وإبراز التقاطعات النظرية والمرجعية بين أصحاب هذه الخطابات وتمييزها عن الاختلافات الاصطلاحية والتصورية الدقيقة التي ميزت توظيفه في كل خطاب على حدة.
ومما ضاعف حجم الصعوبات السابقة وجود "ثغرات" في بعض اللحظات المؤسسة والحاسمة في سيرورة تشكل المفهوم وتطوره تعوق عملية ربط المنجزات السالفة باللاحقة؛ ذلك أن كثيرا من النصوص التي تؤرخ لبداية تشكل مفهوم التخييل وصلت مجردة عن أسماء أصحابها، وتواريخ تأليفها، مثلما هو شأن الترجمة العربية القديمة لكتاب أرسطو: الخطابة، كما أن نصوصا أخرى قد تكـون أسهمت في تأصيل المفهـوم ونحته ضاعت ولم يصل منها أي شيء كما هو شأن شرح الكندي (ت 252هـ) وتلخيصه لكتاب الشعر، علاوة على كثير من المصنفات الأدبية والنقدية العربية الأولى.
ولقد انعكست هذه المعطيات سلبا على منهج الدراسة الذي يقتضي رصد نشأة مصطلح التخييل وتطوره؛ إذ كيف يستقيم بناء كيان مفهومي للتخييل والتأريخ لبدايات تشكله في غياب تلك النصوص؟ وإذا سلمنا جدلا بأنها لم تتضمن كلمة تخييل على كثرتها مذاهب أصحابها واختلاف مشاربهم الفكرية واتجاهاتهم الفنية- فكيف يمكن تفسير بروزها على نحو لافت في نصوص أدبية وفلسفية في لحظة تاريخية واحدة؟ هل الأمر مجرد مصادفة أم أنه ناتج عن تفتق وعي جمالي جديد عند العرب في زمن ثقافي واحد؟ وهل هذا الوعي ناتج عن تطور طبيعي للممارستين الأدبية والنقدية عند العرب؟ أم أنه وليد تأثر بعناصر خارجية؟ وإذا كان مفهوم التخييل عرف نشأتين مختلفتين ومتوازيتين في سياقين معرفيين متباينين (الفلسفي وغير الفلسفي) وتضمن تصورات دلالية وتحديدات اصطلاحية مختلفة، فهل يعود ذلك إلى غنى مضامينه وتعدد تأويلاته؟ أم أنه ينم عن وجه من أوجه الصراع الفكري الحاد والمتأجج في الثقافة العربية بين الاتجاهات العلمية والمذهبية المختلفة؟
وإذ يأمل الكتاب أن يكون قد أسهم في الإجابة عن بعض من هذه الأسئلة، فإنه يرى أن مفهوم التخييل ليس ككل المفاهيم النقدية والبلاغية والفلسفية، لأن البحث عن مجمل توظيفاته ومظاهرها -الاصطلاحية والإبدالية معا- تطلب  استقراء مصادر كثيرة تتوزع بين حقول معرفية متنوعة، وهو استقراء يشعر الباحث لحظته كأنه يبحث في غابة كثيفة متنوعة الأغراس عن نبتة طيبة نادرة يتشبه مظهرها وتتلون رائحتها بحسب ما يحيط بها من نبات، فيجدها مرة منفردة معزولة عن غيرها، ويعثر عليها أحيانا في قلب نباتات أخرى، ويقف عليها أحيانا أخرى متعلقة بالعديد من النباتات؛ وهذا ما ينطبق إلى حد بعيد على مفهوم التخييل الذي كان يستعمل في بعض الأحيان بصورة مجردة عن غيره من المفاهيم البلاغية والنقدية والفلسفية وغيرها، بينما كان يوظف أحيانا بإبدالات مختلفة ومتنوعة، كما كان يرد أحايين أخرى مرتبطا ومتداخلا مع العديد من المفاهيم. وهذا ما كان يجعل دلالاته ووظائفه تتغير تبعا لتغير السياقات المعرفية التي استخدم فيها والمصطلحات التي ارتبط بها.
أخيرا، إني لمدين بوافر الشكر وعظيم الامتنان لمن ظل يحيطني مذ عرفته بعطف إنساني نبيل وعناية علمية كريمة أستاذي المفضال: د.عبد الجليل هنوش الذي كان طوال  ثَمَانِيَ حِجَجٍ نعم الموجه والمشجع على مواصلة الحفر في مضان التراث ومتابعة رصد مختلف لحظات تشكل المفهوم وسياقاتها المختلفة والمتداخلة...
وإذ آمل أن يكون العمل الراهن قد توفق في كشف كثير من خفايا المفهوم وبعض أبعاده التي ظلت مستعصية على الفهم، أتمنى أن يسهم في الـتأسيس لمنهج جديد في مقاربة مفاهيم النقد والبلاغة...ومتابعتها في أصولها وامتداداتها...

                                                                والله ولي التوفيق
                                                  د. يوسف الإدريسي
مراكش في 12 شتنبر 2014




[1]  أنظر د. شكري عيـاد: كتاب أرسطو طاليس في الشعـر، ص 194، 257. د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص21. د. مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب، ص 115. د. جوده  نصر: الخيال مفهوماته ووظائفه، ص 148. د. لطفي اليوسفي: الشعر والشعرية، ص337. د. تامر سلوم: نظرية اللغة والجمال في النقد العربي، ص 207. د. صفـوت الخطيب: نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية، ص107. د. علال الغازي: "تطور مصطلح (التخييل) في نظـرية  النقـد الأدبي عنـد السجلماسي" ، ص 288، مناهج النقد الأدبي بالمغرب، ص 572 وص 573.
[2] أنظر د. سعد مصلوح: نظرية المحاكاة والتخييل عند حازم القرطاجني، ص 129، د. جوده نصر: الخيال مفهوماته  ووظائفه، ص 155. ويلاحظ أن جوده نصر لا يستقر على رأي واحد  في هذه المسألة، فبعد أن أشار إلى أن الفارابي هو أول من استعمل كلمة تخييل (ص148) ذهب في سياق آخر إلى أن استخدامها الأول يعود إلى ابن سينا (ص515)!
[3] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص15. العربي الذهبي: شعريات المتخيل، ص13. د. جوده نصر: الخيال مفهوماته ووظائفه، ص 5.
[4] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص21. د. جوده  نصر: الخيال مفهوماته ووظائفه، ص 5.
[5] د.شكري عياد: كتـاب أرسطو في الشعـر،ص 262. د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص76، 296. د. مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب، ص 123، 127. د. تامر سلوم: نظرية اللغة والجمال في النقد العربي، ص 173. د. عصام قصبجي: نظرية المحاكاة، ص 153.
[6] د. شكري عياد: كتاب أرسطو في الشعر، ص263. د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص 26، 57، 297.
[7] د. عصام قصبجي: نظرية المحاكاة، ص91-92،188. العربي الذهبي: شعريات المتخيل، ص 43، 47، 48.
[8] د. مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب، ص 114.
[9] د. مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب، ص 115.
[10] نفسه، ص 120.
[11] نفسه،  ص 124.       
[12] د. عبد الحميد جيدة: التخييل والمحاكاة في التراث الفلسفي والبلاغي، ص 186، 203.
[13] نفسه، ص 160.
[14] نفسه، ص 178.
[15] نفسه، ص 203.
[16] د.علال الغازي:" تطور مصطلح (التخييل) في نظرية النقد الأدبي عند السجلماسي"، ص 290. مناهج النقد الأدبي بالمغرب، ص 572-573.
[17] د. لطفي اليوسفي: الشعر والشعرية، ص 336-337.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق