الاثنين، 12 ديسمبر 2016

الترجمة والمثاقفة : عبد الرحمن بدوي أنموذجا





يعتبر عبد الرحمن بدوي أحد أبرز المفكرين العرب المعاصرين الذين أنتجوا مشروعا علميا كبيرا جعل من الترجمة مدخلا لتحقيق المثاقفة بين العرب والغرب، وقد تجسد هذا المشروع في عديد الترجمات الأدبية والفكرية والفلسفية التي نقل فيها أمهات الكتب وكبريات النظريات العالمية سواء في اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية، أو اللغات الحية كالإنجليزية والألمانية والفرنسية، وذاع بفضلها صيته منذ منتصف القرن العشرين في ربوع العالم العربي الإسلامي، بل وحتى العالم الغربي.
ولئن كانت الترجمة قد استغرقت جانبا هاما وكبيرا من نتاجه العلمي والفكري، فقد مثلت عنده أداة لترسيخ تصور في الحياة والثقافة والفكر يؤمن بضرورة مواكبة علوم الآخر والتفاعل معها، معتبرا أنها الوسيلة الوحيدة لأي نهضة علمية وتقدم حضاري. ولذلك فقد ظل يؤكد -في كثيرا مما ترجم من أعمال- أن التقوقع على الذات والانغلاق عليها ورفض التفاعل مع الآخر والتوقف عن مواكبة مستجدات العصر هو آفة الآفات وسبب التخلف الفكري والحضاري، كما كان ينبه على أن الترجمة في ذاتها لا قيمة لها ولا يمكنها أن تسهم في تحقيق الآثار المطلوبة إذا لم تصبح أداة للتفاعل والتثاقف بين الأمم، وإذا ما اقتصرت على نقل نصوص غير ذات قيمة كبيرة، أو أساءت فهمها وشوهت مضامينها ونظرياتها العلمية، مثلما حدث في الترجمات العربية القديمة للفلسفة اليونانية، وكما يحدث في كثير من الترجمات الحديثة للاتجاهات والفلسفات الحديثة، التي اضطر إلى إعادة ترجمتها وكشف حقيقة تصوراتها وأسسها.
ويفيد الاطلاع على منجز المفكر والفيلسوف العربي في العصر الحديث عبد الرحمن بدوي –كما وصفه ذات احتفاء طه حسين- باستنتاج أنه كان حريصا في أعماله الترجمية على اتباع منهج دقيق، يتجاوز الهفوات التي تحول دون الإفادة من تراث الغير وحسن التفاعل معه، عبر اختيار نصوص وأعمال مميزة تفي بتحقيق مسعاه بالتأثير في النفس والوجدان والعقل، وتمكن من تغيير نظرتها للعالم والأشياء والطبيعة والسياسة والثقافة. ولذلك حرص منذ بواكير نشأته وتفتق شخصيته العلمية على وضع خطة تأليفية تسير في ثلاثة اتجاهات: الأول عرض الفكر الأوروبي الحديث على القارئ العربي؛ والثاني إعادة ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني القديم وتحقيق نصوصه في التراث العربي الإسلامي؛ والثالث الجمع بين الاتجاهين السابقين عبر نوع آخر من الكتابة تستثمر الترجمة وتوظفها لكن في كتابات مبتكرة وخاصة.

لقد سعت هذه الاتجاهات التي طبعت مسار الإنتاج الترجمي لعبد الرحمن بدوي إلى إحداث ثورة روحية في الفكر العربي الحديث، من خلال إطلاع القارئ العربي على جديد النتاج العلمي والمعرفي عند الغرب، وإقناعه بأن التخلص من تخلف العقل العربي الإسلامي وعجزه عن متابعة تطور الفكر الإنساني منذ القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، إنما يكون باستفادته من ذلك النتاج واستيعابه، والأخذ بقيمه ذات الأساس العقلي الإنساني العام. ولذلك يلاحظ أنه عاد إلى التراث اليوناني فترجم نصوصه من جديد، وحقق الترجمات العربية القديمة له، لأنها تمثل أساسا قويما من الأسس التي قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة، وتعتبر مدخلا رئيسا لفهم أسباب نهضة الفكر الإسلامي في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي.
وإذا كانت إسهامات عبد الرحمن بدوي تندرج جميعها ضمن هذا المسعى الثوري التثقيفي، فقد تكفلت مقدمات كتبه المترجمة ببيانه والدفاع عنه، كما تولت تأكيده تعليقاته على الأفكار والتصورات الغربية المعروضة في ثنايا مؤلفاته المبتكرة التي قدم من خلالها قراءة نقدية لتاريخ الترجمة عند العرب منذ بواكير ظهورها وإلى العصر الحديث، باسطا فيها تصوره للأسس النظرية والمنهجية والتطبيقية التي يجدر أن تقوم عليها الترجمة، والتي تعتبر بحق نظرية دقيقة في الترجمة ومنجزا منهجيا دقيقا وهاما لايقف عند حدود عرض الأسس والمرتكزات والخطوات المنهجية الواجب اتباعها، بل يرفد ذلك بتقييم للأعمال المترجمة عند العرب منذ القرن الثالث للهجرة وإلى عصره، قصد بيان نقطها المضيئة، وكشف عناصر ضعفها التي حالت دون تحقيق المبتغى الحضاري والثقافي من الترجمة.
في هذا الإطار، راجع بدوي الترجمات العربية القديمة للفلسفة اليونانية عامة والشعرية الأرسطية خاصة، فأبرز أن العائق الذي حال دون أن تحدث تأثيرا عميقا في الفكر العربي الإسلامي قديما، لاسيما بالنسبة إلى شعرية أرسطو، يعود إلى اتكال أصحابها كليا على وسيط غير عربي، واكتفائهم بقراءته الثقافية الخاصة، دون أن يكلفوا أنفسهم بالعودة إلى الأصول، والنقل المباشر منها، الأمر الذي فوت على الثقافة العربية الاستفادة من فلسفة أرسطو وحسن التأثر بالتصورات والمفاهيم الهامة والدقيقة فيها، هذا فضلا عن أن كل ذلك المنجز الترجمي قرأ النصوص المترجمة قراءة تجزيئية، فلم يربطها بالأنساق الفكرية والسياقات المعرفية والمنهجية الموجهة لكل واحد منها.
وسعيا إلى تدارك ما غاب عن المترجمين قديما، وحرصا على بيان أن الترجمة تظل دون أي قيمة تذكر، ما لم يربط المترجم النص بسياقه المعرفي والحضاري ويقرؤه قراءة تفاعلية، وهو ما يعتبر مبدأ من المبادئ الأساس التي تقوم عليها الترجمة في تصوره، أعاد عبد الرحمن بدوي ترجمة التراث الفلسفي اليوناني، ولا سيما الفلسفة الأرسطية، من الأصول والمخطوطات اليونانية الأم إلى اللغة العربية مخرجا الفلسفة اليونانية القديمة في مظهر عملي يتجاوز مواطن القصور والخلل، ومنبها على طبيعة المنهج العلمي الواجب اتباعه في إخراج نصوصها وترجمتها لكي تحقق الغاية العلمية والحضارية المرجوة منها.
وإذا كانت هذه المنهجية قد حققت ذلك، فقد أسهمت أيضا في إنقاذ نصوص كثيرة من الضياع، مثل الحجة الأولى لبرلقيس في قدم العالم وعشرات رسائل الإسكندر الأفروديسي، كما مكنت من تقويم كثير من التحريفات الموجودة في المخطوطات الأم. بل إن ذلك أفاد الغربيين أنفسهم في تصحيح كثير من أفكارهم وأحكامهم حول تراثهم اليوناني القديم، وقادهم إلى الاطلاع –عبر الترجمة العربية التي أنجزها عبد الرحمن بدوي- على عديد النصوص التي ضاعت في لغتها الأصلية، ولم يعد ثمة سبيل للوصول إليها.
وعلاوة على هذا وذاك، تبرز قيمة المنجز الترجمي لعبد الرحمن بدوي في كونه أثرى الفكر النقدي والفلسفي الحديث، سواء عند العرب أو عند الغرب، من خلال عديد الدراسات الأكاديمية والأبحاث العلمية التي توسلت بأعماله واستندت إليها في قراءة تاريخ المعرفة البشرية، عند اليونان أو العرب قديما وكذا عند الغرب حديثا، وهي دراسات وأبحاث أغنت المكتبات الجامعية والخزانات العامة، وانتهت –نتيجة جهوده الترجمية الرائدة- إلى العديد من الكشوفات العلمية الكبيرة والهامة، وكان لها الفضل في ظهور عديد المعاهد ومراكز البحث في مختلف الجامعات العربية اليوم.
ولم يقتصر تأثير ترجماته على هذا الجانب، بل امتد إلى ميادين السياسة والفكر والاقتصاد، وهو ما يتبدى من الأثر الفعال والكبير الذي مارسته ترجماته الأولى لنيتشه وغيره من فلاسفة ومبدعي أوربا على نخبة المثقفين والساسة المصريين وكوادر الجيش المصري، الذين تشبعوا بالقيم التي حملتها شخصياتهم ودعت إليها وتأثروا بها نفسيا ووجدانيا وفكريا فسعوا -كما تدل على ذلك شهادات وتصريحات العديد منهم- إلى الاقتداء بها، والاهتداء بتعاليمها في عديد الأنشطة الاجتماعية والسياسية والحركات الثورية التي قاموا بها.

لذلك، وانطلاقا من متابعة ترجمات عبد الرحمن بدوي في علاقتها بتكوينه الثقافي، وتعدد اللغات التي يتقن، ومواقفه الفكرية والفلسفية، وطبيعة الرؤية المنهجية المتحكمة فيها، ونوع علاقة النصوص المترجمة بأصولها، ودرجات الأثر الفكري والثقافي الذي حققته في الحياة الأكاديمية والعلمية والاجتماعية والسياسية، يحق -انطلاقا من كل هذا وذلك- اعتبار المفكر والفيلسوف المصري رائدا من رواد الترجمة والمثقافة في العصر الحديث. وهو ما سيعمل البحث المقدم على بيانه بالنصوص والقرائن الترجمية الواضحة والمؤكدة. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق