الخميس، 14 مايو 2015

التناص النقدي في مقامات بديع الزمان الهمذاني-بحث منشور بمجلة جذور عدد 39 -يناير 2015



       
التناص النقدي في مقامات بديع الزمان الهمذاني
ذ.مولاي يوسف الإدريسي
تقديم

المقامة نص إبداعي فريد في الثقافة العربية الإسلامية ووليد شرعي خالص لها ومقصور عليها، من الممكن إبراز اختلافاتها البنيوية والأسلوبية والموضوعية عن غيرها من النصوص، ورصد تطوراتها، إلا أنه من المتعذر تبين طفولتها والوقوف عند النواة النصية الأولى التي انبثقت منها ويسرت لها سبل النشأة والتشكل، ولا ترجع هذه الصعوبة إلى ضياع ملامحها الطفولية المُبَكِّرَة، وإنما تعود إلى أن المقامة ولدت كاملة وناضجة، وصارت "زهرة برية لا يُدرى كيف تفتفت"(  [1]).


وبقدر ما تثير المقامة أسئلة متعددة تتعلق بمصادرها وأصولها وخصائصها الجمالية ومميزاتها التعبيرية، تطرح كذلك أسئلة أخرى تتصل بالبحث عن الأسباب الذاتية والاعتبارات الفنية التي دفعت بديع الزمان الهمذاني (ت398هـ) إلى ابتداع نص تخييلي مفارق -في شكله الفني وموضوعه الجمالي- لكل النماذج الأدبية المألوفة في المشهد الثقافي العربي التي ترسخت قبله في الذاكرة الإبداعية على امتداد ستة قرون على الأقل؛ وهي أسئلة تهم في المقام الأول النظر في طبيعة الموقف الفكري والرؤية الجمالية اللذين حملاه على إنتاج شكل أدبي جديد يستثمر أسلوبي الشعر والسرد وتقنياتهما التخييلية ويقف في حدودهما المتجاورة، فهل ذلك راجع إلى الرغبة فعلا في التمرد على نموذج نصي سائد ورفض طريقة تقليدية مهيمنة في صناعة الأدب؟ أم هو الوعي المُبكِّر بأن من الرؤى الجمالية ما لا يمكن التعبير عنه بأسلوب واحد وطريقة متجانسة في القول؟ ولذلك كان لابد من ابتداع نص أدبي جديد وصوغ أسلوب تعبيري بديع لقول أشياء مختلفة ظلت خارج مدار التمثيل الجمالي والتعبير الفني، لأن لغة الشعر لم تتسع لها، ولأن لغة السرد لم تمتد إليها؟
  لعل المدخل الملائم للإجابة على هذه الأسئلة وكثير غيرها يتمثل في ربط مقامات الهمذاني بالنسيج الثقافي العربي القديم من شعر ولغة ونقد وبلاغة وحكي، والنظر في كيفية تفاعلها مع هذه الخطابات وغيرها لبلورة كينونتها النصية، ولئن كان هذا الأمر يجد مبرره في خصوصية اللحظة التاريخية والمعرفية التي انبثقت فيها، أي النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة، والتي اتسمت برقي الدرس اللغوي والبلاغي والنقدي عند العرب ونضج مباحثه، فإن الحاجة إليه تزداد قوة حين نعلم أنه كان شاعرا مجيدا وأن القدماء اعتبروه إماما في البلاغة، وأن عنايته بقضايا الشعر والبلاغة وأسئلتهما الإبداعية والجمالية جعلته يستهل مقاماته بـ"المقامة القريضية"، ويعيد طرق الموضوع ذاته في أربع مقامات أخرى، هي: "الجاحظية" و"العراقية" و"الإبليسية"  ثم "الشعرية".
من ثمة، يقترح البحث الراهن الوقوف عند علاقة مقامات الهمذاني بالخطابات اللغوية –الممفهمة والمتخيلة- المعاصرة له والسابقة عليه، والنظر في طرائق تفاعله وتعالقه معها، والبحث في الأمشاج التعبيرية والفكرية الرابطة بينها وبين مقاماته، ثم الوقوف بعد ذلك عند خصوصية بنائه النصي وفرادة أسلوبه التعبيري. 




([1]) المقامات السرد والأنساق الثقافية، عبد الفتاح كيليطو، ص 6.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق